ناشط مدني تحرّش جنسياً بعدّة نساء… ومنظمات تغضّ الطرف وتوظّفه

تحقيق: نضال أيوب وزينة ارحيّم

في دوائر اجتماعية ضيّقة، تتناقل النساء قصصاً عن التحرش الجنسي، اختبرنها بأنفسهن أو سمعن عنها. فيها، يُسمّى المتحرشون وتوصَف أفعالهم. هي خيار الضحايا الأقل خطراً للبوح، في مجتمع ما زال يلوم المتحدثات ويصمهنّ، بسبب ما تعرّضن له من اعتداءات. فالبوح يبقى واحدة من آليات المواجهة القليلة الباقية للنساء، إنْ لم يكن لتحقيق العدالة، فعلى الأقل لتحذير الأخريات من المُتحرش.

في هذه الدوائر سمعنا للمرة الأولى عن الناشط الذي يعمل مع منظمات المجتمع المدني السورية عهد مراد، وتكرر اسمه مرتبطاً بقضايا تحرش مرات عدّة، ومن مصادر مختلفة.

بعد التقصي عن المسألة من منظمات دولية وسورية عمل معها، علمنا أن بعضها اتّخذ موقفاً منه بعد التحقق من شكاوى قُدمت لها خلال الأعوام السابقة. لكن هذه المواقف لم تكن كافية على ما يبدو. فمراد لا يزال ناشطاً في أوساط المجتمع المدني السوري، ومسؤولاً في إحدى منظماته، ويتيح له منصبه التعامل بشكل مباشر مع أعضاء أسر المعتقلين، ومن ضمنهم الزوجات.

ولأننا نعتقد أن هؤلاء النساء قد يكنّ عرضة للاستغلال أكثر من غيرهن، بدأنا بجمع القصص والشهادات لإعداد هذا التحقيق. ثماني نساء سوريّات شهدن بتعرّضهن لتحرش جنسي، لفظي وجسدي من قبل مراد، وصل مع إحداهن إلى محاولة اغتصابها.

من بين الشاهدات ناشطات مدنيات وزوجات معتقلين وزميلات عمل، مُحجبّات وغير مُحجبّات، متزوجات وعازبات، فضّلن جميعّهن عدم ذكر أسمائهن، لذلك نستعيض عنها بالأرقام.

تقبلين بالتحرش أو توصمين بـ”الرجعية”

“استعمل التحرر والنسوية كذريعة ليتحرش بي”، تقول الشاهدة الأولى (35 عاماً)، وتروي كيف تواصل مراد معها عام 2016 بذريعة أنه مهتم بالقضايا النسوية، لكنه سرعان ما بدأ الحديث عن الجنس والمتعة الجنسية، وحين صدّته، اتهمها بأنها “متخلفة وعقلها متحجر” وسألها “عَ شو طلعتي ثورة إذا الحكي بموضوع السكس مش عادي بالنسبة إلك؟”.

لم يكتفِ مراد بالتحرش اللفظي عن بعد بالشاهدة الأولى، فحين التقيا للمرة الأولى في ورشة عن إدارة المشاريع في بيروت، تفاجأت به يقرع باب غرفتها مساء وبيده زجاجة نبيذ، ليخبرها بأنه جاء ليعتذر عن حديثه السابق وتخطيه الحدود معها.

“سمحتُ له بالدخول بعد تردد، وتركت باب الغرفة مفتوحاً تحسباً لأي واقعة”، تروي الشاهدة الأولى، إلا أن مراد أغلق الباب لاحقاً متحججاً بالبرد، ثم تقصّد أثناء حديثه ملامسة رجلها، وحين نهرته رد عليها بأنه “أمر عادي بين الأصدقاء”.

لم تفلح محاولاتها بصّد مراد، بل اقترب منها أكثر مع نظرات وصفتها بأنها “شهوانية تدعو إلى التقيؤ”، ثم قال لها: “أنا سكران ويمكن يصير شي بيناتنا”.

أكّدت له الشاهدة الأولى أن لا شيء سيحدث بينهما وطلبت منه الرحيل، فأجابها “أف مو انتي مع الحرية؟”، و”وضع يده على مؤخرتي، وهنا جنّ جنوني وبدأت بالصراخ، فقال لي: ‘كلكن بتستشرفوا بالأول، وماشيات ع مبدأ عيني فيه وتفه عليه’”.

لاحقاً، تواصل معها مجدداً، لا ليعتذر عمّا فعله بل ليؤكد عليه. تنقل عنه الشاهدة قوله لها: “لو ما كنت سكران كنت اغتصبتك. كلكن مجرد أدوات لنستمتع فيكن”.

محاولة اغتصاب

تروي الشاهدة الثانية (26 عاماً) أنها تعرّفت على مراد من خلال ورشة عمل نظّمتها منظمة “دولتي” في بيروت عام 2017 للتحضير لإطلاق مشروع عن التأريخ الشفوي.

و”دولتي” تعرّف عن نفسها بأنها “مؤسسة غير ربحية تؤمن باللاعنف والمقاومة السلمية، وتعمل على تحقيق التحول الديمقراطي والسلمي نحو دولة تحترم حقوق الإنسان والمساواة والتسامح والتنوع”.

كان مراد يومها منسّق الورشة وأحد المدربين فيها. تقول الشاهدة إنه “في ليلة وصولي ذاتها، طرق باب غرفتي الفندقية وعندما فتحته، وجدته يحمل ثلاث علب معدنية من مشروب فودكا XXL ورائحتها تفوح منه. “أخبرته أنّي لا أشرب الكحول، لكنّي سمحت له بالدخول. كنت جديدة على هذه الأجواء، ولا أريد أن أبدو رجعية أو متخلفة”، بحسب قولها.

وتجنباً للجلوس معه وحيدة في الغرفة، دعته الشاهدة الثانية للجلوس على الشرفة وهنالك “بدأ يخبرني عن حياته الشخصية وزواجه التعيس، وبعدها شرع بالبكاء وحاول إمساك يدي، ارتبكت وسحبتها، وغادرت الشرفة متحججة بالعطش، فما كان منه إلا أن لحق بي، وأمسكني بقوة، وبدأ بتمزيق ثيابي. رماني بعدها على السرير، وعندما كان يحاول فكّ بنطاله، بيديه الاثنتين تمكنت من الإفلات منه. خرجت من الغرفة وأنا شبه عارية. لقد نجوت بأعجوبة أو هذا ما ظننته”، تقول.

في صباح اليوم التالي، انتظرها مراد في الممرر ليعتذر منها، معبّراً عن ندمه وطالباً العفو. تروي الشاهدة الثانية: “كنت بعدني تحت تأثير الصدمة، وحاسة إنو الحمد لله اللي مرقت عخير وما صار شي أكتر من هيك”.

لم تتقدّم بشكوى أمام الجهة المنظمة. تقول: “لم أفكر في ذلك، فأنا لا أعلم آليات الشكوى ولا نتائجها، كما أنني غير واثقة من أنهم سيصدقوني، كلمتي مقابل كلمته، وأنا الفتاة الجديدة التي بالكاد يعرفونها، بينما هو موظف يعرفونه جيداً”.

لم تنتهِ تجربة الشاهدة الثانية مع مراد عند محاولة الاغتصاب تلك، بل كانت هذه مجرد بداية لمسلسل من الابتزاز والتهديد، عززه صمتها. “شعوره بأنّ الحادثة مرّت من دون عقاب جعله يتمادى أكثر، بل إن الحادثة نفسها أصبحت ورقة يبتزني بها. كان يقول لي مراراً: ‘إننا في مجتمع شرقي، سيصدقني ويلومك إذا قررتِ فضح ما جرى’”.

“لم يوفّر تهديداً إلا واستخدمه لإجباري على الدخول في علاقة معه”، تتابع الشاهدة وتصف مراد بأنه أصبح “كابوساً” يلاحقها طوال الوقت. “لم يعد أي مكان آمناً بالنسبة لي. كنت أخاف منه. أخاف من أي فعل قد يستفزه. لقد كان مصدر تهديد حقيقي بالنسبة إليّ”.

استمر مراد في ملاحقة الشاهدة الثانية في ورشات العمل حتى تلك التي لم ينظمها أو يدرّب فيها، لكنه و”بحكم علاقاته الواسعة مع المنظمات، كان قادراً على حضور أي ورشة أشارك فيها”، تقول.

وأكدّت صبيتان إحداهما عملت مع مراد في منظمة “دولتي” والثانية حضرت إحدى الورشات، تحرّشه بالشاهدة الثانية أمامهما في مناسبات عدّة، كما روت مَن كانت تعمل معه أنه كان يخبرها عن “علاقة رومانسية جمعته مع (الشاهدة الثانية) وعن حبّه وأشواقه لها، علماً أنها لا تطيقه وأنا أعرف أنها كانت تكرهه”.

كذلك، أخبرنا منسق ورشة عن التمكين السياسي أقيمت في بيروت عام 2019 أن مراد تواصل مع الجمعية المنظمة للورشة ليطلب منهم التطوع فيها، مدّعياً أنه مهتم بالمشروع، وقال المنسق الذي فضّل عدم ذكر اسمه: “أصرّ كثيراً يومها، وتمّت الموافقة على طلبه، إلا أنه وبعد انتهاء الورشة، لم يسلّمنا المواد المطلوبة منه، واختفى، لنعلم لاحقاً، بعد أن توطدت علاقتنا مع بعض المشاركات، أنه متحرش. كما أخبرتنا إحداهنّ أن سبب مجيئه هو ترهيبها، وإيصال رسالة لها مفادها بأنه يستطيع الوصول إليها في أي مكان”.

استغلال حاجة النساء للعمل

بالإضافة إلى ضغطه على النساء بحجة “التحرر” وتقريعهنّ إنْ لم يرضخن لتحرشه، استغل مراد علاقاته مع عشرات المنظمات الفاعلة في الشأن السوري ومناصبه فيها ليضمن سكوت النساء اللواتي تحرّش بهن، مستغلاً حاجة العديدات منهن للعمل.

هذا ما حدث مع الشاهدة الثالثة (28 عاماً). كان كافياً سؤالنا لها عن متحرّش يعمل في منظمات المجتمع المدني لتجيب: “عهد مراد، أشهر من نار على علم”. وكانت قد عملت معه على مشروع كان منسّقاً له واستغل سلطته وحاجتها للعمل والمال ليتمادى معها.

بعد ثلاثة أسابيع وبعد سلسلة مراسَلات للتأكد من المعلومات التي أدلت بها، قررت الشابة سحب شهادتها قبل نشر المادة بوقت قصير جداً، خوفاً منه ومما قد يقوم به إذا تعرّف عليها. “هو ابن حرام وقادر يضرّني”، قالت.

الشاهدة الرابعة كانت في أوائل العشرينات من عمرها عندما عملت تحت إدارة مراد لعدة أشهر في منظمة “دولتي”. وعلى الرغم من أن علاقتهما لم تتجاوز العمل، إلا أنه واظب على دعوتها إلى منزله، مرّة بأن يقول لها “تعي نتعشى” ومرة أخرى “اطلعي ناخد كاس”…

تصف الشاهدة الرابعة مراد “بالشهواني”، وتشير إلى أن نظراته إليها كانت “بشعة” وإطراءاته “جنسية ومُخيفة” و”غير مرغوب بها”، ما اضطرها للعمل طوال الوقت وسمّاعات الهاتف في أذنيها. “كنت أضع الموسيقى بصوتٍ عالٍ طوال الوقت لأتخلص من كلامه وتحرشه”.

تقول الشاهدة الرابعة: “تخيّلي أن تعملي في مكان لثماني ساعات يومياً، من دون أن تشعري بالراحة لا في جلستك ولا في تحركاتك أو ملابسك. كنت دائماً في حالة تأهب، أشدّ كنزتي للأسفل خوفاً من أن يظهر جزء من بطني، أرفع قبّة كنزتي للأعلى وأغلق سحّاب السترة، تجنباً لأن ينظر إلى صدري، إنه مزعج ومثير للاشئمزاز”.

تؤكّد كل الشهادات التي جمعناها استخدام مراد لعلاقاته الواسعة مع منظمات المجتمع المدني لترشيح النساء وتوظيفهن، كسلطة يضغط فيها عليهن للسكوت عن تحرشه.

التحرش تحت غطاء المجتمع المدني

الشاهدات رقم خمسة وستة وسبعة وثمانية عملن مع مراد في منظمة “دولتي” ومشروع “أرشيف التاريخ الشفهي السوري” خلال فترات مختلفة.

ويسعى المشروع المذكور إلى توثيق تجارب مجموعة واسعة من السوريين المتضررين من النزاع بالتركيز على الأصوات المهمّشة وعلى الأخص تجارب النساء والشباب، نفذّته “دولتي” مع منظمة “النساء الآن”.

و”النساء الآن” هي منظمة غير ربحية تهدف إلى تمكين النساء من العثور على أصواتهن السياسية والمشاركة في بناء سوريا جديدة وآمنة تحترم وتحمي الحقوق المتساوية لجميع مواطنيها.

تروي الشاهدات أن تصرّفات وأفعالاً متطابقة تعرّضن لها من قبل مراد، من التحرش اللفظي والدعوة إلى منزله، إلى محاولات ملامستهنّ واقترابه منهنّ في كل فرصة، وعدم احترامه للمسافة الاجتماعية، ونظرات الشهوانية وعدم الاستجابة لمحاولات إيقافه عند حدّه مهما قلنَ له وفعلنَ.

تقول الشاهدة الخامسة: “اضطررت للتنسيق مع عهد منتصف عام 2017 بسبب عملنا على المشروع نفسه. كان دائماً يتعمد تغيير أحاديث العمل ليتطرق إلى مواضيع شخصية، وتهربي وعدم تجاوبي معه لم يجعله يتوقف بل كان يتمادى أكثر”.

وتخبرنا كيف أنه كان يتعمّد الاقتراب منها “إلى حد مزعج” في الاجتماعات، وكيف كان يحاول ملامسة يديها في كل مرة يريد أن يأخذ منها شيئاً: “كان يلمس كتفي، ويقترب كثيراً منّي ويلصق جسمه بي عند الجلوس أو عند الانحناء لأخد ورقة أو قلم أو أي شي”.

في إحدى المرات، دعاها إلى منزله في لبنان، وعندما لم تتجاوب معه، قال لها: “تعالي وما بتكوني غير مبسوطة وأنا رح أبسطك”. ردّت عليه بغضب وقالت له: “وليش حتى إجي لعندك؟ ما بتستحي على حالك تحكيني هيك، وكمان مزوج؟”، فأجابها: “شو بدك بمرتي. هيي بالشام مو هون، بعدين إنتي حلوة وضحكتك كتير حلوة. بالله اضحكي شوية وفرديها”.

بعد عام، اضطرت الشاهدة الخامسة لحضور ورشة عمل معه في بيروت، وكان معها ملف متعلق بعملهما، فأخبرها بأنه يريد الملف حالاً، رافضاً الانتظار حتى الصباح وأنه في طريقه إلى غرفتها ليأخذه. تروي: “لا أخفي شعوري بالخوف الشديد منه. أسرعت ووضعت الملف أمام باب الغرفة، وأقفلت الباب قبل وصوله. أشعر بالقرف والاشمئزاز كلمّا تذكرت هذا الشخص أو أي شيء يتعلق به”.

الشاهدة السادسة عملت مع مراد على ذات المشروع أيضاً. كانت في أوائل العشرينات من عمرها حينذاك. عن تجربتها، تروي لنا: “كنت أرسل له شهادات النساء التي أوثّقها ضمن مشروعنا لأرشفة تاريخ سوريا الشفهي فيقول لي ‘صوتك كتير حلو، لازم تصيري مذيعة أخبار’”.

“في البداية، ظننت أنه إطراء زمالة ولم أعر الأمر انتباهاً إلى أن بدأ يلحّ عليّ بأن أزوره في بيروت بقوله ‘طلعلي لعندي’، و’أيمت فيكي تجي؟’”، تقول الشاهدة التي كانت تعمل في مدينة لبنانية ثانية، ثم تخبرنا: “اضطررت إلى ارتداء خاتم زواج مدّعية أنّي مرتبطة بشاب في محاولة مني لصدّه عني. فأنا لم أرد أن أخسر عملي بسبب تصرفاته. أزعجني كثيراً فهو وقح ومخيف”، وتضيف كيف كان يبتزها بتكراره جملة “صوتك كتير حلو، لازم نحكي أكتر حتى تقدري تكملي شغل معنا”.

ضمن المشروع نفسه، تعرّفت الشاهدة السابعة (27 عاماً) على مراد في ورشة نظّمها عام 2017 أيضاً عن مشروع التاريخ الشفوي، بعد الانتهاء من الفترة الأولى من المشروع، بهدف تقييم العمل وطرح أفكار لتوسيعه. تقول: “رغم أنني محجبة كان يتقرّب مني جسدياً بشكل منفّر، وهذا شيء غريب، فنحن نعمل مع العديد من الزملاء الرجال لكن الحدود بيننا واضحة”.

وتضيف: “كان يقّرب كرسيّه منّي إلى درجة أنني وقفت وغيّرت مكاني في منتصف التدريب، وعندما شاهد رسمة على دفتري قال لي ‘الرسمة جميلة بس مو أحلى من جمالك’، ورددت عليه بشكل صريح طالبة منه أن يتوقف عن هذا الكلام وأخبرته أنه يزعجني فأجاب بأننا زملاء”.

في الورشة الثانية التي جمعتها بمراد بعد عام في بيروت، وضمّت العاملين على المشروع نفسه، بهدف نقاش طريقة الأرشفة وحفظ المعلومات ونشرها، عاود الكرّة وبدأ يقترب منها بشكل اضطرها إلى تبديل مقعدها مع زميل لها. “حسيت إني متضايقة كتير وخفت منو، وفوقها كل شوي يزت القلم حد رجلي وينزل يجيبه”، تقول.

كما حدث مع غيرها، لم تنفع صرامتها وتعبيرها الصريح عن الانزعاج في إيقاف مراد عند حدّه، بل استمر يمطرها بعبارات من قبيل: “صوتك حلو”، “بتمسكي القلم بطريقة حلوة”، “أصابعك حلوين”، قبل أن يحاول مسك يدها، فصدّته وخرجت من القاعة باكية.

“الورشة مهمة جداً لي وموضوعها يعني لي كثيراً، لكنّه ضغط عليّ وأزعجني، وهي المرة الأولى التي أتعرض فيها لهكذا موقف”، تروي.

اشتكت الشاهدة السابعة على مراد لدى منظمة “النساء الآن” حرصاً على سلامة النساء اللواتي تُسجّل شهاداتهن وتُرسَل له كونه مدير المشروع. تقول: “هو يسمع كل المقابلات ويعرف تفاصيل النساء اللواتي أقابلهن وعناوين الاتصال بهن. أرعبتني هذه الفكرة. وكأنني أساعده على اصطياد فريسته!”.

وأدت شكواها مع أخريات إلى إيقاف عقده مع منظمة دولتي، بعد سنة وشهرين من عمله لصالحها.

مؤسسات دولية أوقفت التعامل معه

للتحقق من صدقية هذه الاتهامات، سألنا منظمتين دوليتين سبق لهما أن اتّخذتا موقفاً من مراد بسبب التحرش الجنسي عمّا جرى فأجابتا لكنهما فضّلتا عدم ذكر اسميهما.

أكدت الأولى أن مراد كان مُرشحّاً لحضور تدريب عن الأمن الرقمي العام الماضي، لكن بعد التقصي والسؤال عنه ألغيت الدعوة. ممثل المنظمة قال: “طلب منّي شخص أن أسأل عنه أكثر، وبعد أن تحرّيت عدّة أشخاص تيّقنت من أنه متحرش وسحبت دعوته للتدريب”.

أما المنظمة الثانية، فقد أوقفت تمويلها لمنظمته “بلدي” عام 2019، بعد أن علمت من أحد شركائها المحليين عن مزاعم تحرش جنسي ضدّه. المدير الإقليمي للمنظمة قال: “حققنا في المزاعم وأخذناها بكل جدية، وتوصلنا إلى استنتاج مفاده أنه وفقاً للشروط والأحكام العامة لدينا، عندنا الحق في إنهاء التعاون معه، وهذا ما فعلناه”.

ومنظمة “بلدي” تعرّف عن نفسها بأنها “منظمة عمل مدني تهدف للمساعدة في تنمية المجتمع المحلي وتعزيز التماسك المجتمعي” ومقرّها سوريا.

“النساء الآن”… حذّرت منه

تعرّفت منظمة “النساء الآن” على مراد خلال عمله منسقاً لمشروعها المشترك مع “دولتي” حول التاريخ الشفهي. وحول أول مؤشرات اكتشاف أنه متحرش، تقول المديرة التنفيذية للمنظمة ماريا العبدة: “لاحظنا أن كل ورشة يشارك فيها عهد، تقوم بعض النساء بالاعتذار عن الحضور”.

وبعد التقصي عن الموضوع، والحديث مع المعتذرات، اكتشفن أن عدّة نساء تعرضن للتحرش من قبله، فقامت “النساء الآن” بإبلاغ “دولتي” بالأمر وانتهى تواصلهم معه.

وبعد ذلك، أخذت “النساء الآن” على عاتقها مسؤولية إخبار أي شخص أو منظمة على صلة بعهد بالأمر. “عندما نُسأل من قبل الممولين عن مراد كنّا نخبر القصة كاملة، وقد تم بالفعل إيقاف بعض المشاريع له”، تقول العبدة.

لكن النساء لم تفضحه علناً وعن سبب ذلك تجيب العبدة: “لم نستطع، لأن ذلك قد تترتب عليه دعاوى قانونية، وحينذاك كانت النساء اللواتي تكلمن غير قادرات على رفع شكوى رسمية، بسبب وضعهن القانوني في لبنان”.

“دولتي” أنهت عقده مع تعويض وتمنيات بالتوفيق

بدأ مراد عمله مع منظمة “دولتي” في شباط/ فبراير 2017 كمسؤول عن برنامج “أرشيف التاريخ الشفهي السوري” في بيروت، بموجب “تزكية جيدة من شخص عمل معه سابقاً في المجال الإعلامي”، بحسب مديرة المنظمة سلمى كحالة.

تلقت “دولتي” عدّة شكاوى بشأن مراد عام2018 ، فشكلت لجنة داخلية وأجرت مقابلة مع ثلاث نساء، صرّحن بأنهن تعرضن للتحرش منه، وبعد البحث والتدقيق تبيّن أنّ كلامهنّ ذو مصداقية، ولدى مواجهته بالأمر، هدّد المنظمة برفع قضية تشهير عليها وعلى النساء المشتكيات.

وبعد حصول “دولتي” على رأي محامٍ، قررت تفادياً لأي نزاع قانوني أن تنهي عملها معه، في 23 آذار/ مارس 2018، بذريعة أن منصب “مسؤول المشروع” الذي يشغله لم يعد متاحاً. من بين خيارات أخرى يتيحها قانون العمل اللبناني، اختارت “دولتي” إنهاء عقده بتسوية مالية، نال بموجبها 3600 دولار أميركي. ليُفصل مراد دون ضوضاء، بل ومع مكافأة مالية.

لطالما نجح مراد في ترهيب ضحاياه، واستعمال القانون ذريعة لإسكات كل مَن يحاول فضحه. وفي ظل غياب الخيارات القانونية المرتبطة بقضايا التحرش في لبنان، تكاد فرص تحقيق العدالة للضحايا تُختزل في الفضح العلني للمتحرشين.

وهذا ما تؤكده كحّالة. تشير إلى أن “عدم إعلانهم عن السبب الحقيقي وراء صرفه “مكّنه من الاستمرار في الاستفادة من الصورة والشرعية في المجتمع المدني السوري الممنوحة له بحكم فترة عمله معنا”، إلا أنها وفي الوقت نفسه توضح “أن خيارتهم آنذاك كانت محدودة، وأنهم فعلوا ما كان متاحاً لهم”، فبعد تهديده لهم برفع دعوى تشهير، لم يستطيعوا نشر الخبر علناً واكتفوا “بتبليغ عدد من الشركاء الموثوقين كما أبلغوا ثلاث منظمات سألتهم عنه بالأسباب الحقيقة لإقالته”.

“العدد القليل من الشركاء الموثوقين لدى دولتي” لم يشمل موظفي المنظمة الذين لم يُبلّغوا بأسباب إنهاء العقد. تبرر كحالة ذلك بـ”بنود اتفاق الخصوصية المتبع في قسم الموارد البشرية وكذلك قوانين مكافحة التشهير”.

بالإضافة إلى البدل المادي وعدم فضحه، خرج مراد من “دولتي” برسالة إلكترونية تتمنى له التوفيق، استهّلتها مسؤولة الموارد البشرية بـ”العزيز” وختمتها بـ”يعطيك العافية ونتمنى لك كل التوفيق”.

منظمة “نو فوتو زون” ما زالت توظّفه

من المنظمات التي أبلغتها “النساء الآن” بأن مراد متحرّش، بحسب مديرتها التنفيذية ماريا العبدة، منظمة “نو فوتو زون” التي يعمل فيها حالياً، وهي منظمة تعرّف عن نفسها بأنها تهدف إلى “نشر الوعي القانوني والحقوقي المتعلق بقضايا الاختفاء القسري والاعتقال”، و”تقديم الاستشارات المباشرة لأسر المعتقلين والمختفين قسراً”.

تقول مديرة منظمة “نو فوتو زون” نورا غازي إنها تعرّفت على مراد عن طريق مديرة “دولتي” سلمى كحالة، مشيرة إلى أنها لم تكن على دراية بأن سبب فصله من دولتي متعلق بشكاوى تحرش، فما تعرفه هو أن “المنصب الذي كان يشغله لم يعد متاحاً”.

وتضيف غازي أنه “وإنْ ثبت على مراد تحرشه سابقاً، لست أنا مَن يتحمل المسؤوليه بل المنظمات التي علمت ولم تخبرني. كان يجب على ‘دولتي’ أن تراسلني، لا سيما أنني تعرفت عليه عبر مديرتها”.

وعن تبليغ “النساء الآن” لها بقصته، تشير إلى أنها علمت بالأمر بالصدفة: “تبلغت بطريقة غير رسمية لدى لقائي مع مسؤولة التواصل السابقة في نساء الآن، وقد أخبرتني أنه تحرش بواحدة من المستفيدات دون تفاصيل”، وتعلّق: “إذا افترضنا قيام مراد بهذه الأشياء سابقاً، فهو لم يقم بها في منظمتي، حَ افترض إنو كان متحرش وبطّل عندي متحرش، هيدا إنجاز”.

ولدى استفسارنا عمّا إذا كان سيُفصَل بعد الاطّلاع على شهادات الضحايا، أجابت غازي بأنها محامية والقانون لا يسمح لها بمعاقبته على شيء ارتكبه سابقاً وليس لها صفة فيه، وتابعت: “لا يمكنني تغيير شهادتي عن مراد استناداً إلى شهادات أخريات لا أعرفهنّ. أنا أحكم على الشخص بحسب سلوكياته معي”.

وتضيف أنها لن تستطيع فصله دون وجود شكوى ضدّه من إحدى العاملات أو المستفيدات من خدمات منظمتها.

بحسب غازي، مراد من مؤسسي منظمة فوتوزون، ويعمل منذ عامين كنائب لها وهو يحل مكانها في كل شيء. “عند غيابي يحضر المؤتمرات، ويتواصل مع كل المستفيدات”، تقول مؤكدةً أنه خلال كل هذا الوقت لم تتلقَّ أية شكوى عنه من أية مستفيدة.

إضافة إلى “نو فوتو زون”، ينشر مراد مقالات رأي في جريدة “عنب بلدي”. وعند التواصل مع رئيس تحرير الجريدة جواد شربجي قال: “لم تصلني أية شكاوى أو معلومات بهذا الصدد”. وعمّا إذا كانت لدى الجريدة سياسة متعلقة بمكافحة التحرش أجاب: “لدينا قسم في مدونة السلوك حول التحرش وطرق التعامل مع أي حادثة تندرج تحت هذا السلوك، علماً أن هذه المدونة مُلزمة فقط للعاملين في المؤسسة والموقعين عليها فهي جزء من عقد العمل” أي أنها ليست ملزمة للمستكتبين كمراد.

ثماني نساء استطعنا الوصول إليهنّ ووافقن على مشاركة شهاداتهن، ولكن هذا ليس بالضرورة عدد ضحاياه.

ومراد هو مثال عن متحرّشين يعملون في منظمات مدنية إلا أنه ليس الوحيد. هنالك آخرون يستخدمون مواقع السلطة لاستغلال النساء. والمسؤولية لا تقع على المتحرشين وحدهم، بل أيضاً على مؤسسات تعالج الشكاوى ذات الصلة التي تصلها على عجل وتجد لها حلولاً وفق منطق “اللفلفة”، ما يسمح للمتحرشين بأن يستمروا في أفعالهم في مؤسسات أخرى.

إن بقاء المنظمات رهينة للتعقيدات البيروقراطية والخوف من الدعاوى والتشهير وربما الخوف على مصادر التمويل، سيترك المئات من العاملات في منظمات المجتمع المدني والمستفيدات من خدماتها وحيدات في مواجهة عشرات النسخ من مراد، وسيزيد التطبيع مع ثقافة التحرش وحتى الاغتصاب بما فيها من لوم للضحايا.

نضال وزينة جاهزات لتوثيق أية شهادات ضد متحرشين نافذين، لا تترددن بالتواصل معهن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.