من رماد بيت جدي الإدلبي.. إلى الرمادية

في مثل هذه الأيام قبل تسع سنوات، كانت أمي مشغولة بالتحضير لاحتفالات الذكرى الأولى للثورة في مدينة إدلب، كانت الخُطّة أن تعد مع أخريات قالب كاتو عملاقاً يوضع أمام الساعة، معَلَم المدينة المميز، وعليه العلم الأخضر الذي أصبح في ذلك الوقت ممثلاً للحراك المدني ضد النظام. لكن خططهن أُفسدت باقتحام الجيش للمدينة، وتغيّر كل شيء في ذلك اليوم.
انقسمت فرق الجيش إلى وحدات، راحت كل منها تداهم حيّاً وتفتش المنازل واحداً تلو الآخر، بحثاً عن أي دليل على معارضة أصحاب المنزل.
في حارتنا، بيت جدي وخالتي ميسون، إضافة إلى بيتنا، تشكل مثلثاً يستغرق المشي بين زاويتيه أقل من خمس دقائق. قرر أهلي القاطنون في منزل جدي، أن يذهبوا لبيتنا عندما سمعوا أخبار اقتحام الجيش، ليكونوا معاً إذا حصل لأحد منهم شيئاً، ولأن بيت جدي كان “مركز انطلاق مظاهراتنا”، كما تخبرني أمي.
سبعة عناصر داهموا منزلنا الذي لجأت إليه ثلاث عائلات من أهلي، ابنة خالتي التي لم يتجاوز عمرها الخمس سنوات في ذلك الوقت، أصيبت بالخرس لساعات وتبدّلت حُمرة وجنتيها إلى اصفرار فاقع وهي تدور في بيتنا الصغير محاولة إيجاد زاوية للاختباء. سألتها أمي محاولة كسر رعبها “لماذا أنتِ خائفة يا راية؟”، فأجابتها ”تعرفين كم هتفت للحرية في ساحة الساعة كيف لا أخاف؟”.
“رعب فظيع”، تصف أمي مضيفة: “حاولنا أن نبتسم مدعيّن أننا مرحّبون بهم، فتّشوا بشكل عشوائي، وتعلّقت عيونهم بصُورك التي تحتل جدران غرفة الجلوس، خصوصاً تلك التي كنت ترتدين فيها الفستان الأبيض مكشوف الكتفين، زعران وجهلة، تخيلي أنهم لم يعرفوا جهاز المشي عندما رأوه، وتجمعوا حوله محاولين فهم ما هذا.. إلى أن سألوني وأخبرتهم أنه جهاز رياضة منزلية”.
كانت مخاوف أمي عديدة، في تلك الساعات الثقيلة، على رأسها معرفتهم بأن هذا المنزل يعود إليّ، الصحافية التي تكتب عنهم من دون مواربة، وقوالب الكاتو المزينة بالعلم الأخضر التي تملأ ثلاجتنا، والتي كانت من مهمّات أمي لليوم الاحتفالي، ولم يفتحوها.
بعد خروج العناصر من البيت، اهتزّ بناؤنا ذو الأساسات الرخيصة، كلّه بأصوات وخطوات عشرات العناصر الذين توجهوا إلى المنزل في الطابق العلوي. لم يتجرأ أحد من أهلي أن يمّد رأسه ليرى ما يحدث، لكن من هول الأصوات والعدد توقعوا أن سلاحاً قد اكُتشف في منزل الجار، ليعرفوا لاحقاً أن ما وجده العناصر كان عُدّة إسعافات أوّلية، كادت تودي بحياة جارنا بتهمة إسعاف المتظاهرين، إلى أن شهد الجيران بأنه “مُطهّر” للأطفال وهذه عدّة عمله، فنجا هو الآخر مصادفة.
لكن منزل جدّي لم ينجُ، أحرقه الشبيحة انتقاماً من مشاركة أمي وخالاتي في المظاهرات. تقول الروايات أنهم لم يشعلوا فيه ناراً، بل أغلقوا نوافذه ورموا فيه قنبلة، راحت تتجول بين ذكرياتنا وتحرقها الواحدة تلو الأخرى، خانقة بدُخانها الأسود، شقاءَ جدّي الذي أمضى حياته كلها يسدّد ثمن منزله هذا.
منع الشبيحة، الأهالي، من إطفاء الحرائق، وتابع أهلي المشهد من خلف ستارة منزلنا القريب، بصمت.
أما من دّل الشبيحة على بيت أهلي، فكان جارنا “الهرموش”، ربّ عائلة يعمل موظفاً صغيراً في مؤسسة حكومية، وصل مع دوريات الجيش ليرشدهم إلى بيت جدي قبل أن يُنصّب نفسه أمير حرب على حارتنا.
كانت خالتي تظنّه مهندساً، طويل القامة وملامحه جميلة، كنّا نصّبح عليه عندما نلتقي في الطريق أو عند محل السمانة في الحارة.
لم يجرؤ أي من أهلي على الاقتراب من المنزل لرصد الحريق، لأيام ثلاثة، بل وأرسلوا إلى بيت “الهرموش” وفداً يستأذنه ليدخلوا غرفة النوم من أجل ما تبقى من وثائق وثبوتيات فقط، لكنه رفض ومنعهم من ذلك. ولم يعد أي منهم إلى بيت جدي منذ ذلك اليوم الربيعي.
بعد أشهر، أحضر الهرموش سيارة إطفاء لتنظّف الحريق، وأجّر بيت جدي لحسابه، لشبيح قادم من سراقب التي سيطر عليها المعارضون. واستأجر الشبيح السراقبي، من الهرموش، بيتاً ثانياً بالإضافة إلى بيت أهلي، لتسكن فيه زوجته الثانية وأولادها. وعندما خطف مسلحون من المعارضة، شقيق الهرموش، اقتحم منزل خالتي ميسون وخطفها مع ولديها ووضعهم في منزله، بينما كانت زوجته وأطفاله في الغرفة الثانية.
أصيبت خالتي بآلام شديدة في المعدة في ذلك اليوم، ولم تُشفَ منها إلى الآن. أطلق سراحهم في اليوم التالي، فأخذت صبيانها وغادرت سوريا بعد ساعات.
كل المذكورين في مدونتي هذه، أصبحوا نازحين اليوم، حتى الهرموش والشبيح السراقبي، غادروا المدينة إلى اللاذقية بعد سيطرة “جيش الفتح” عليها.
أما أهلي فأضحوا مشتتين في أكثر من خمس دول وأربع قارّات. توفي خالي محمد في حادث سيارة في تُركيا، ولم يبق لنا من البيوت سوى ذكريات تلاحقنا في الأحلام، وكأننا لم نسكن بيوتاً غيرها في حياتنا!
كتبتُ في فايسبوك، يوم وصلتني صور البيت المحروق: “سترحلون يا محتلّين وسنبقى، وسأحاكمكم على خوف أهلي ولو كان آخر عمل في حياتي!!!!”. هكذا بعنفوان وانفعال وثقة كتبت هذا المنشور الجزل! أما الآن، فلا يراودني سوى الضحك وأنا أقرأه، وترتسم في ذاكرتي صورة شرشبيل مهدداً السنافر “… ولو كان آخر عمل في حياتي!”.
الحمد لله على نعمة أنني كبرت على إطلاق هكذا شعارات رنّانة، وأصبحتُ أهدأ وأكثر عقلانية.
ابنة خالتي التي أرسلت لي صور بيت جدي المحروق، والتي أمضيت يومين كاملين أبكي خوفاً عليها، إذ كانت الصبية الوحيدة الباقية معهم، قاطعتُها ولم أكلّمها منذ سنوات، بعدما شاركت في إحدى حملات تشويه سمعتي الافتراضية.
خلال السنوات العشر الماضية، تعلّمت بالطريقة الصعبة، أن أتخلّى عن كل المُسلَّمات والحقائق القطعية، بعدما تشاركتُ المآسي مع من كانوا أعدائي، وتسلّم رفاق النضال بطولة كوابيسي.. خطوة أخرى نحو الحكمة وسأتمكن أخيراً من تبّني مقولة إيهاب توفيق “هي دنيا وإحنا عايشينها ليه بنحسبها واحنا حنسيبها.. يبقى نكسبها ونعشيولنا يومين”.

المادة منشورة في المدن

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.