صندوق البريد

بين الغريب وصندوق البريد علاقة مُعقّدة وطويلة من الابتزاز العاطفي والاستلاب، لسنوات يضع الغريب قلبه في الصندوق المعدني يومياً، يغمض عينيه وهو يسمع حركة المفتاح، يصلي لكل الأرباب التي سمع عنها، علّ أحدها يكون حقيقياً ويملء الصندوق بالورقة السحرية أو تلك الوثيقة التي ستعطيه صلاحية الحياة “العادية” لبعضة أشهر أخرى.
يفتح عينيه أمام الصندوق كمارد يزيح باب شقة آدمية، لا تكفي رؤية الفراغ ليُصدق، يمد يده لداخله، يحّك أرضه علّ الرسالة تخرج كمارد من المصباح، ولا ييأس إلا أن تفشل كل الحواس ويستسلم الخيال أمام هول الصندوق الفارغ.
يحتّل البريد أفكار الغريب ويتحمل مسؤولية توتره في أغلب الأيام، وفي مواسم القلق ينتقم منه الغريب بفتحه عشرات المّرات في اليوم، عندما يخرج ويعود وبينهما عدّة زيارات خاصّة حتى.
يضع الغريب مُلصقاً يمنع موزّعي الدعايات من زجّرها في صندوقه الثمين، لئلا ترفع آماله رؤية الورقة، إلا أنه يفشل من وصول رسائل الدعايات الانتخابية التي تحضّه على المشاركة على التصويت، وهو يصارع حقه في الوجود، “هذا البريد لي؟ لي أنا يا..؟.”
لعدّة أشهر، اعتقد ساعي البريد الشاب في حارتنا أني مُوّلعة به، فأنا أهرع مسرعة نحو شاحنته الحمراء الصغيرة يومياً ما إن ألمحها من النافذة، أصل إليه لاهثه ومبتسمة، كطفل ينتظر البوظة وعيونه مُشعّة بالرغبة، أسأله أحياناً وأخجل مرات أخرى منتظرة أن تتحرك يده نحو صندوقي. أراها كعصا الساحرة اللطيفة التي ستحولني من غريبة مُنتظرة لمواطنة/أو بحكمها، بحركة خفيفة مع بضع نجمات تلمع في المشهد السحري.
لكن الساعة في صندوقي كما صندوق الغريب، تقف عند منتصف الليل، موعد إبطال السحر.
يتمّلك الغريب الغضب من مشهد الصندوق الفارغ المُتكرر ، يضربه مُهمهما بكلمات سيئة، قبل أن يتذّكر كاميرا المُراقبه خلفه، فيعتذر منه منسحباً كمريض خسر سنة أخرى من حياته.
تساهم الفواتير المُتعددة التي لا تنضب أوراقها ولا تمّل الوصول في زيادة إذلال الغريب، “أنتِ مرّة أخرى يا ابنة الكلب”؟ يصرخ بها بحرقة قبل أن يُمزّقها، ليضطر لدفعها مُضاعفة بسبب التأخر، لاحقاً.
يتملكه الندّم، فما ذنب الفواتير؟ ليست هي من تصدّ أوراقه السحريه عن الوصول لصندوقه الموصود، هو ذلك الموظّف الُمتململ الذي يلوم ثقافة “بصلة الغريب المحروقة”، متعجّباً من عنجهية الغريب الذي يطالب بمساواته بأهل البلد الآمن الذين يملكون خيار الانتظار أو الاستعجال لوصول الأوراق لصناديقهم المهجورة.
فصناديق البريد لأهل البلد الآمن هي ليست إلا صناديق بريد! يا للعجب! حتى أن أقفالها تبدو جديدة وأبوابها مغلقة بإحكام، لا كصناديق الغريب المخلوعة والمُنهكة من الخذلان.
ينهر الموظف الغريب بعجرفة إن أرسل رسائل إلكترونية مُلحّاً في سؤاله عن وثائقه، “انتظر”، فما عسى للغريب أن يفعل في حياته بعد الانتظار؟
صباح الخير للغرباء والغريبات..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.