بطَل بدَوام كامل

في شتاء 2011 صدحت حنجرتي “إرحل” في ساحة البساج لأسمع صداها في مجمع محاكم بنغازي “نبو الشعب يعيش حياته”، لتسافر مسرعة إلى ميدان التحرير أن “الشعب يريد اسقاط النظام”، ويتردد صداها في ساحة التغيير “اعتصام اعتصام حتى ينجلي الظلام”، وفي ساحة الأمويين علت صرخة “الله سوريا حرية وبس”. فأنا من أصابني ذاك المس ولا وصفة لكسر تعويذته.

تستطيع رؤيتي بسهولة بين مئات آلاف المتظاهرين. فبريق الأمل، هالة لامعة حولي تُعمي الأبصار، وأصلاً أنا أوّل الهتّافين والقادة والمؤثرين. سجع كلماتي يُطرب الأطرش، ويردد أناشيدي حول العالم الملايين. أنا منظّم المظاهرة وضابط إيقاع الثورة، ومُوجد المجموعات المدنية، ومديرها الدائم الأنسب والأوحد.

لمذا تحتاج سيرتي الذاتية؟ هذه إهانة، ضع اسمي في محرك البحث باللغة التي تريد، ستجد مقابلاتي التاريخية وما صُنع عني من أفلام، وكل تلك الفيديوهات العفوية التي لعبت فيها دور البطل. أنا الذي أقرأ بيانات الصمود، وأبث التهديدات للخونة والمُرجفين. فأنا البطل النبيل الوحيد، حامل الهم الأكبر والأسى الأعمق، المقدام كمجنون، والشريف المعصوم كإله.

إنجازاتي مآثر تاريخية للثورة، وإنجازات غيري تسلّق وارتهان. هفواتي عابرة مبررة، فهل تريدون ثورة بلا أخطاء! أما أخطاء غيري فجرائم تؤخّر انتصارنا، عملي في المنظمات المدنية هو لإنقاذ الأهالي ودعم صمودهم وتحقيق العدالة لقضيتهم. بينما عمل غيري نصب واحتيال وسرقة أموال موجهة للشعب المقهور. المناصب التي أتقلدها أوسمة ثورية أستحقها، فأنا الناطق باسم كل التجمعات والممثل الشرعي لكل الهيئات. أما غيري فهم سياسيون جهلة لا يعبرون إلا عن أنفسهم، ومن انتخبهم حتى يتكلموا باسمنا؟

أنا الأذكى والأكثر فهماً لواقعنا وسياقه وتطوراته، وبالتالي فإن كل من يخالفني غبي على الأقل، أو لا يملك الأهلية الثورية ليعطي رأيه أمامي. فأنا اعتُقلت لمدة أطول، وإن لم أكن كذلك، فلقد عُذّبت أكثر، وخسرت أكثر. وأنا الرابح في كل مسابقات البؤس هذه، ما يعطيني الحقوق الحصرية لوسم الجميع بما أريد وأشتهي.

في قاموس مهاراتي اللغوية، عشرات الإهانات المؤدلجة والاتهامات الجاهزة، أفصّلها وأحيكها برشاقة لتناسب الظرف والمقصودين: من يناصر حقوق الإنسان من دون تحيز للمنتهكين من جماعتي، هو بلا شك متسلق ووصولي. المدافع عن النسوية والناشطات، ومَن ينتقد المجتمع الذكوري، هو بائع لدينه وتقاليده ليشتري ولاء الغرب ويكسب منصباً في مخابراتهم، فما الذي يدفع الناشط المدني المؤمن بالحريات إلى انتقاد عادات مجتمعه إلا القبض من الغرب الشرير؟

من ينتقد المسلحين الذين أدعم، “أبيض” منفصل عن الواقع، “ليتشاطر ويشكل كتيبة غيفارا ويقاتل معهم ويفرض شروطه عندئذ”. ومن ينال من أخطاء شلتي المدنية هو، وبكل وضوح، أعته وسطحي، وأستطيع أن أثبت – بلا حاجة لأدلة – وعبر منشوراتي ذات المصداقية العالية فقط، أنه موالٍ للنظام وبلطجي شبيح. أما من ينتقد عقيدتي المُنزّهة، فهو كافر مارق مرتد، رأيت مقعده في النار. ومن يدافع عن إسلاميين أبغضهم هو متشدد متطرف، يقبض من الخليج وقاتل مع “داعش”.

في الحصار، وصفتُ أهل بلدات الجوار المتدخلين في شأننا المحلي بالمرتاحين المُنظرّين، وعندما خرجتُ لدولة مجاورة أناضل فيها لاستمرار الثورة، أعطيت لنفسي صفة “آخر الخارجين”، وحتى عند هجرتي الأخيرة نحو القارة العجوز حمّلت من تركوا البلد أولاً، المسؤولية، فلو أنهم بقوا معنا في الداخل لما اضطررت للهجرة أنا!

صّك التنظير حلال لي، في أي مكان حللت، لا لتاريخي الثوري فقط، وإنما لأنني بطل مشهور ويحق لي ما لا يحق للآخرين. عِش ما عشته أولاً، ثم حاججني.

أنا لا أكره النجاح ولا أهاجم الناجحين كما يروّج عني المغرضون، لكني أرمي بسهامي المسمومة كل من يحرف السياق الوحيد الذي أرتأيه للأحداث. بدليل أنني لا أعاند الشعوبيين طالما يهللون لوجهة نظري من الحكاية. أما من تسوّل له نفسه أن يحكي حقيقة مختلفة، فليستعد لتلقي شتائمي واتهاماتي.

صحيح أن مفرداتي الهجومية الغنية، تخونني عندما تتناول المنشورات أحد ممولي مؤسستي، لكن كيف أعيش وأنشر الفضيلة الثورية وأنا جائع؟ أتريدونني أن أسرق؟ حاشا الله، قد اضطر لتأييد ممولي والشد على يده، ورشّ الإعجابات على منشوراته الطائفية. ألم أقل لكم أنه يحق للبطل ما لا يحق لغيره؟

عدت إلى منزلي أمس بعد سهرة ثورية، نزقاً من مستلق آخر حاول أن يناقشني في أخطاء الثوار. ألم يرَ ما فعل النظام والمجتمع الدولي بنا؟ ومجازر الروهينجا والمؤامرة الكونية علينا؟ وهل هذا وقته لننتقد أخطاء ثورتنا المباركة، ولو بعد ثماني سنوات؟ وأمام الأغراب ينشر غسيلنا الملوث؟

طرقتُ الباب وأنا أعربد على الأفاك الموالي، وإذ بزوجتي تستقبلني بكل برود قائلة: “ألم تشبع من التنظير بعد، دع الخلق للخالق وانشغل بحالنا!”. لم أتمالك أعصابي، لففتُ شعرها على قبضتي اليسرى فاقترب رأسها لتتناوله اليمنى صفعاً على فمها الوسخ مرة، اثنتان، ثلاثاً، لم يهدأ غضبي بعد! ورميتها أرضاً وبدأت أركلها كما فعلت قوات الأمن بي أثناء اعتقالي: “أنا أنظّر يا ابنة ال..! عندما انتشلتك من مستنقع أهلك كنت إمّعة لا أكثر! جعلتك زوجة البطل! أصبحت تتحدثين معي في أهم الفعاليات الثقافية عن دور المرأة في الثورة ونضالها وبقية هذا الهراء، علّمتك وجعلت منك ابنة آدم وأنت لست إلا بقرّة حلابة تحفظ نسلي..انقلعي قبل أن أغلط فيك.. لا أحد يتحدث مع الأبطال بهذه الطريقة”. وبصقت عليها، وهي تمشي. “جاحدة مؤيدة.. تفه”!

فالتفتت نحوي صارخة: “استفق! لن تطعمنا بطولتك الغابرة خبزاً ولن تدفع فاتورة الانترنت، انتهت أيام البطولة والأبطال يُنسون مع انطفاء بلدهم من الأخبار، البطولة ليست مهنة!”.

انقضضتُ عليها كعسكريّ أنهى للتو اغتصاب فريسته، ولففت عنقها بساعدي المفتول: “يا سافلة! أنا البطل أينما حللت، لك أنا الشريف وكلهم لصوص، أنا المشهور الوحيد الذي لم يتسلق على الثورة، ولم يستغل أحداثها ليكسب رزقه وشهرته وأسفاره وفِيَزه، أنا فارس هذا الزمان الوحيد ومن حولي الرعاع.. لماذا تنظرين إليّ بهذه الطريقة! لم جحظت عيناك واصفّر وجهك؟ مستغربة! وكأنك لم تشهدي لي في ساحات الوغى والشرف؟ وكأنك لا تعرفين؟ تشككين في بطولتي يا خائنة، سأذبحك وأنشر في صفحتي أن النظام جز عنّقك انتقاماً من صرختك للحرية، يا ناكرة الجميل، سأصنع منك أيقونة حتى بعد مماتك، فأنا صانع الأيقونات ومتحديها”.

ليست هذه المرة الأولى التي أهذّب فيها حرمتي، لكنني أعيشها معززة مكرمة، بل وتكسب من ارتباطها بي شهرة ولقب البطولة بلا تعب! فأنا مدافع شرس عن حقوق النساء، طالما لم يخرجن على التقاليد والأعراف والدين، فهذه خطوط حُمر، وعند تخطيها يصبح الأمر بغاء وفحشاء، لا حقوق نساء. عليهّن اللعنة تلك النسويات الشمطاوات اللواتي ينسين ما يعانيه الناس في بلدي والنزوح والقصف والتعذيب والقمع، ولا يرين إلا عاهرة قُتلك في جريمة شرف! عاهرات مستشرقات لعنهن الله جميعاَ، سيُهزمن ولو بعيد حين.

أما أنا فقد صمدت أمام الهراوات والتعذيب والتهميش والخذلان. ما أقسى الخذلان يا عبير. وها أنا اليوم أصارع طواحين اليأس والجنون بتجلياته الشرقية الغادرة، لا مكان لغير الأبطال هنا يا زوجتي المغدورة.

لم تنظرين إلي هكذا؟ بالله عليك قولي لي، ما الذي سأفعله إن لم أكن بطلاً؟ كيف ألتحق بالدراسة أو بورشة حدادة بعدما حصلت على شهادة الأبطال والشهرة؟.. لم لا تردين عليّ؟ هل أنا فعلاً قلق على منصبي الشرفي أكثر من قضيتي؟ أي قضية؟ وما الذي سيبقى منها ومني إن أغلقت صفحتي في فايسبوك؟

ما هذا المس؟ لم يدور هذا النقاش في دماغي الآن؟ هل تعرفين أي مدارس تعلّم البداية بعد الهزيمة، بلا تحطيم الرفاق المهزومين يا عبير؟

كيف أعيش إن لم يعد لرأيي واجتراره، كل يوم، وزن وتهليل؟ وإن لم تعد منشوراتي محرك حملات ونقاشات افتراضية تدوم أياماً؟ ماذا أفعل غير الكلام بالماضي؟ هل من حبّة تذكّرني بالعادي بعد سنوات سمان من البطولة؟

عبير؟..عبير! لا تردي يا أيقونتنا الجديدة.. سأبث لهم خطابي مباشراً في فايسبوك”.. أخرجي من الكادر الآن..

أعزائي المتابعين الأوفياء..
لا تقلقوا من تخبطي ولا تستمعوا للحاسدين، سأخرج لكم بعد كل غياب، كمارد المصباح بلا دعوة، كمومياء غاضبة أحياناً، وكعاصفة سموم صفراء تلفح ذاكرتكم تارة أخرى. سأدخل دهشتكم من أوسع شاشات هذا العالم الأزرق، مطهراً نفسي من قلقي ومن تصوراتكم عني. سأخلع دبلوماسيتي المعهودة، وأشتُم كل من يكتب تعليقاً ناقداً في صفحتي الحرّة. فلا عزاء للهزيمة إلا تحطيم الجميع.

المادة منشورة في المدن بتاريخ ٢٧-٩-٢٠١٩

العنوان الأصلي: بطل ثم بطل ثم مهزوم

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.