«رسوم أطفال الحرية»… براءة الدم

 

سكّين، مقّص، حبل، ومأخذ كهربائي تصدر منه شرارات بلون أرزق تطير فوق جسد رجل عُلّق على حائط من يديه بالسلاسل وتتدلى من قدميه كرتين حديديتين، يشيح السجين بوجهه المزدحم بالجروح عن رجل مبتسمٍ بفخر يقف يسار اللوحة خلف القضبان وهو يرتدي زيّاً عسكرياً.

“الحريّة في سجون الأسد”، هو عنوان لوحة رشا ذات التسعة أعوام والتي رسمتها في حيّها في باب الدريب بحمص لتشارك فيها في معرض “رسومات أطفال الحريّة” في لندن.

و لندن هي واحدة من المدن العالمية التي هُرّبت إليها لوحات الأطفال السوريين لإحياء الذكرى الأولى للثورة السورية، إضافة لباريس وفانكوفر، وتورنتو، وشيكاغو فيما ألغت السلطات المعرض الوحيد المُنظّم في دولة عربية، في عمّان، قبل ساعات من افتتاحه “بطلب من فوق” كما قيل للمنظّمين.

غلبت على لوحات الأطفال الأربعمئة التي شاركت بالمعارض، الوجوه الحزينة والدموع البيضاء إضافة للون الأحمر الذي رسمه الكثيرون بخطوط غاضبة غير منتظمة فيما لم يستخدم بعض أطفال الشهداء المشاركين الألوان، كما بشرى من دوما بريف دمشق، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، حيث اكتفت برسم أعضاء أسرتها الحزينة دون أن ينسى أخيه الباكي في بطن أمّه الشفّاف مع الكثير من السواد والدموع ومكان فارغ كتب عليه “أبي ليس هنا، أخذه بشار”.

مرّ التفاؤل خجلاً على لوحات بعض الأطفال المشاركين، ليبرز في أوضح معانيه عند مجد وهو في الثامنة من عمره ويقيم في حمص حيث قسم صفحتة لنصفين ليرسم في الأولى كرة صغيرة ترميها يد في تلّة ترابية اسماها “حريّة” لتصبح في النصف الآخر من اللوحة شجرة مورقة ومزهرة بثمار “الأمان”، “حرية الرأي”، “العدالة”، “الكرامة”، “الأخوة” وفوقها جميعاً “رئيس يحبّ الشعب”.

إضافة للمظاهرات والجنازات والشهداء والجيوش التي يرفرف فوقها العلم السوري والكثير من الدماء، لم تغب عن الأطفال السوريين أيضاً انتقاد إعلام النظام، فمن المعضمية في ريف دمشق رسمت هبة، ١٣ عاماً، جسدا ينزف من رقبته ورجله يلامس كاميرا قناة “الدنيا” التي تتجاهله لتصوّر جندياً سعيداً بلباسه المموه والعلم السوري على صدره يهتف “الله سوريا بشار وبس”.

حضر أطفال درعا وريفها بشكل كبير في مختلف المعارض منهم أولاد شهداء كأحمد، ١٠ سنوات، والذي رسم ماحدث لوالده بخطوط بسيطة خلق فيها ملامح جندي غاضب يوجّه سلاحه نحو رأس رجل راكع لكن رأسه مرفوع، وتحته صورة بورتريه كتب عليها هذا بشار الأسد، تخرج من فم الجندي كلمات “اركع” فيردّ الرجل الراكع “لن أركع إلا لله”.

كما شارك أطفال من إدلب وريفها ودمشق وريفها إضافة لحمص وحماه وبعض اللوحات من حلب.

تهريب الأسلحة الملوّنة

مرّت اللوحات الملوّنة بمغامرات عديدة قبل أن تحطّ رحالها في المعارض المختلفة، بدأت تلك المخاطرات بورشات الرسم التي أقيمت داخل سوريا، يقول أحد النشطاء الذي ساهم يتنظيمها “خاف الآباء من إرسال أولادهم للمشاركة، ولا ألومهم لذلك، خصوصاً أننا أردنا مشاركة الأطفال الذين يعيشون في المناطق التي تتعرض للحملات العسكرية والأمنية ليرسموا واقعهم، والصعوبة الأكبر كانت تأمين مكان آمن للأطفال كي يرسموا.”

المغامرة الثانية كانت تهريب تلك اللوحات لعمّان رغم خطورة التعرض للاعتقال، وقد تم ذلك بالتنسيق مع فريق “ميثاق سورية”، وهم مجموعة مستقلة تسعى للعمل من أجل ثورة الشعب السوري.

مدير المشروع، والذي فضل عدم ذكر اسمه قال “كان يمكن لبضع ورقات مدهونة بالألوان إن تودي بحاملها إلى الاعتقال والتعذيب وربما التصفية على أيدي أشرس أجهزة قمع وحشية في العالم”.

لم تحتج كل اللوحات لخوض هذه المغامرات حيث شاركت بالمعارض أيضاً لوحات رسمها أطفال لاجئين في ورشات أقيمت في طرابلس بلبنان وعمان بالأردن وفي مخيمات اللاجئين في تركيا.

مريم قرحوف من إدلب والتي تعيش منذ أشهر في مخيمات اللاجئين بتركيا رسمت “باسم” الشخصية الكرتونية الرئيسية في كتاب قراءة المرحلة الابتدائية وقد استشهد لتكتب دماءه “أحب سوريا” بينما ارتمت دفاتره وأقلامه على الأرض.

الفنانون التشكيلون السوريون حضروا بلوحاتهم أيضاً معرض لندن فقد شارك كلاً من خليل يونس، محمود الحلبي، محمد عمران، مريم سمعان، لينا الجيجكلي وخالد الخاني الذي رسم مجزرة كفر الطون في ريف حماه.

وأشرف على المعرض فنيّاً بشار العيسى وسامي عجوري والذي نظّم أيضاً ورشة الرسم في مخيّمات تركيا.

من عالم آخر وبألوان فرحة وطفولية رسم الأطفال البريطانيون لأقرانهم السوريين تعاطفاً على شكل أقواس قزح وزهور وحدائق وأدوية لتشعرهم بالتحسن.

بشرى من دوما

هذا وقد تمت رعاية معرض لندن من قبل تنسيقية إدلب في جدة والهيئة العليا للإغاثة ممثلة بشريكها البريطاني جمعية ‘هاند إن هاند’، ويذهب ريع المعرض لدعم المشافي الميدانية في إدلب وريفها، فيما تتوزع ريع المعارض الأخرى لدعم المشافي الميدانية بمختلف أنحاء سوريا.

ويحيي المعرض أيضاً في الخامس عشر من آذار ذكرى الثورة السورية بمجموعة عروض من الأفلام وبازارا لأعمال يدوية صنعتها ثائرات من محافظة إدلب، إضافة لبيع قرص مدمج من أغاني الثورة تم إعداده داخل سوريا، وستكون هذه الاحتفالية بالتنسيق مع احتفالية الشارع.

منظمة المعرض في لندن  تقول “دفع الأطفال لإسقاط الضغوط التي يعيشون وحالة الحرب التي يشهدون على الأوراق ورسمها بالألوان يخفف من الأعباء القاسية التي وجدوا أنفسهم فيها خلال هذا العام الطويل، وعدا عن أنها طريقة للتنفيس عن غضبهم هي أيضاً وثائق هامة لهذه المرحلة التاريخية من حياة السوريين، وهي تساعد تنقل الواقع السوري للجمهور البريطاني بطريقة مختلفة عن التغطية الإعلامية القاسية كما أنها تحقق في الوقت نفسه عائداً مادياً يخفف بعضاً من الأحمال الثقيلة عن أهلنا في سوريا”.

المادة منشورة في الحياة بتاريخ 18-3-2012

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.