الرقابة الذاتية تعود بأدوات جديدة للإعلام السوري، لتقيّد صنّاعه وصانعاته

”أنا مندسة وعميلة وجاسوسة..لكني صديقتك“، كان هذا هو عنوان مدونتي الأولى[1] التي أطلقت فيها العنان لجزء من صوتي بحذر بنهاية شهر آذار عام 2011. لأعترف لأول مرة ”بأنني مندّسة في قضايا وطني وأهلي وكل ما يعنينا ويؤثر على حياتنا، وعميلة للحرية والإنسانية والحقوق والعدالة، كما أنني جاسوسة أعمل لصالح السوريين النبلاء الذين دخلوا السجون لرأي قالوه أو مقال كتبوه، أو لأنهم وقفوا أمام وزارة ليدعموا الوطنيين الأحرار في المعتقلات، فضُمّوا إليهم بتهمة (النيل من هيبة الأمة) و(إضعاف الشعور القومي)“، متسائلة ”هل تنزعج الأمة عندما يصرخ أبناؤها (سلمية) ولا تتأثر عندما يضرب آخرون الرصاص ويطلقون العنان لزماميرهم للاحتفال (بالنصر المؤّزر) في قلبها، بينما تنزف أطرافها أرواحاً برئية وثكالى وأيتام! والشعور القومي الثوري المنادي بالحرية من تونس إلى اليمن سيضعف إذا انضم لهتافه الموحّد (الشعب يريد الحياة) شباباً جدد؟“.

كانت المدونة مشروع منشور على الفيس بوك، لكنه طال إلى حد جعلني أحوّله لمدونة وانشره على مدونتي الشخصية التي أنشأتها كمشروع للجامعة، حيث كنت أدْرس ماجستير الإعلام الدولي بجامعة سيتي في لندن.

رغم مرور أكثر من عقد على نشر المدونة، إلا أن شعوري عندما ضغطت زر ”النشر“ ما زال حاضراً في ذاكرتي، ”ما أحلى حرية التعبير “؟ قلت لنفسي عندئذ مهدئة من مخاوفها مما قد ينجم عن ممارستي لها.

بعد ساعات على نشر المدونة، تجاوز عدد القراءات العشر آلاف، وهنا لم يعد بمقدوري التقليل من أهمية أشواك الخوف التي شذّبتها للتو، وخاصة بعد أن بدأت الاتصالات والرسائل من العائلة والمقربين تنهال علي لتحذيري من مغبّة حرية تعبيري، فهي تعني أنني ”أحرق مراكب العودة للبلد“.

تلا ذلك اليوم مفاوضات عاصفة بيني وبين نفسي، على كل كلمة ومنشور، ففي ذلك العام كانت حدود الرقابة الذاتية كخيوط شمس في يوم غائم، تتمايل على أحداث كبيرة كالمجزرة، فأكتب بحرية غير مكترثة بالطوفان، وفي أخرى – كاعتقال صديق- تسقط عمودية على كلماتي فأكتب وأمحي وأمحي مجدداً.

لعدة أشهر، سمعت صوتي للمرة الأولى دون فلاتر رقابية، كنت أهتف في التظاهرات، وأكتب وأنشر وأدرّب وأعد التقارير المذيلة باسمي على قناة البي بي سي، حلاوة تلك الخفّة لا يدركها إلا من وُلد بجلد من حديد ليكتشف في العشرينيات أن هذا الحديد في الحقيقة قالب تم تفصيله على مقاسه، وليس بجلد، وبالتالي يمكن خلعه دون أن يأخذ روحك معه.

فما هو هذا الحديد الشفاف الذي قولب حريتنا وتعابيرنا قبلاً؟

يُعرّف البعض[2] الرقابة الذاتية بأنها قيود ذاتية للامتثال مع اتجاه شائع تمارسه الدولة والمجتمع، وآخر يعرفها كإحساس الكاتب بالمسؤولية اتجاه ضميره ومجتمعه، وثالث يعرفها بأنها إحساس داخلي بالمعايير المهنية للنشر، ورابع يعرف الرقابة الذاتية بأنها عملية تنظيم من قبل المسؤول عن النشر بهدف الالتزام بسياسية المطبوعة والهدف الذي تسعى إليه هو وضع ضوابط أمام الصحفيين، لعدم نشر موضوعات أو أخبار غير مرغوب فيها وتشجيع كتابة موضوعات تخدم سياسة الجريدة.

ويبقى الجدل حول مفهوم الرقابة مستمر “ويختفي وراء صفائـح مبهمة أغلـها يتوارى عند حدود منظومة القيم الاجتماعية، أو محرمات الأمن الوطني ومقدسات السيادة والحرية” بحسب الباحث الفلسطيني محمود فطافطة[3]. يعتبر أيضاً فرض الرقابة بصفة عامة والرقابة الذاتية بصفة خاصة مستمد من طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه، فالمجتمعات الديموقراطية تتصف باستمرار التوتر بين حرية الفرد ومطالب الحياة الجماعية المنتظمة. ويشير فطافطة إلى أن الرقابة الذاتية هي :”مجموعة الأدوات والوسائل الرمزية التي تستخدمها أطراف سياسية ومجتمعية واقتصادية وإعلامية إزاء العاملين في القطاع الإعلامي، الأمر الذي يفرض على الصحفي فرض رقابة ذاتية على تفكيره وانتاجه“.

وبينما تتغنى بعض التعاريف العربية[4] بالرقابة الذاتية ”كمعايير فكرية دينية اجتماعية تربوية، تنبع كقوة داخلية من داخل الفرد، لتدعوه لمحاسبة نفسه وسلوك السلوكيات التي تتفق مع قيمه وعقيدته الدينية، وقيم وتقاليد وقوانين المجتمع المحيط، وتبعده عن كل السلوكيات التي يعاقب عليها المجتمع“، ترى أبحاث غربية كالتي أعدها هايز[5] بأن الرقابة الذاتية هي نوع من تقييد حرية التعبير أو “منع التعبير عن الرأي أو حجبه عن جمهور يعتقد بأنه لا يوافقه الرأي“، وهي ليست مفروضة بالضرورة من قبل الجهات الرسمية، لكن يتم تطبيقها من قبل الأشخاص أنفسهم تجنباً لأي ردة فعل سلبية قد تنجم على تعبيرهم.

وقد اعتبر الباحث كروناو[6] أن الرقابة الذاتية تهديد لحرية الصحافة وهي” أكثر أنواع الرقابة مكراً وفتكاً”.

في سوريا، انفلت العديد من الصحفيين/ات من أثقال الرقابة الذاتية مع بداية الحراك في آذار/مارس عام 2011، عن هذا يتحدث أسامة نصار، وهو ناشط “لاعنفي” ورئيس تحرير مجلة “طلعنا عالحرية”، وهي مجلة لجان التنسيق المحلية التي تعتبر من أولى المطبوعات فيما أصبح يُعرف لاحقاً باسم “الإعلام البديل”.

وعن الانعتاق من الرقابة الذاتية يقول أسامة[7] “كنا في بداية عام 2011 نكتب على أساس أننا تخلصنا أخيراً من القيد، آمنا بأننا لن نتعرض للمساءلة عما نقول أو نكتب، ومحتوانا في ذلك الوقت ركز بشكل رئيسي على التخلص من القيود والانطلاق نحو الحرية، وهو الاسم الذي اخترناه لمجلتنا، طلعنا من أجل الحرية والكرامة، وكان لدينا -في ذلك الوقت- خصم واحد لهما، وهو النظام”.

ورغم انكسار قيود الرقابة الذاتية عند العديد من الصحفيين في بداية ذلك العام، إلا أن بعض القيود بقيت عصيّة بحسب الصحافي عامر مطر، الذي أسس ويدير “الشارع” وهي مؤسسة تعمل على مجموعة من المشاريع الإعلامية، والنشاطات المدنيّة داخل وخارج سوريّا، للدفاع عن الحريات الإعلامية.

يقول عامر[8] “في دمشق عام 2011، كنت في سوريا الأسد، تُطبّق علي ذات الرقابة التي كانت سابقاً، ولكن رغم ذلك، كتبت وتكلمت باسمي مع جهات عربية ودولية عدّة، كنت شخصياً وكمجموعة في ذلك الوقت نكسر حواجز الخوف في أنفسنا قبل الآخرين، ظهرت في الشهر الخامس بفلم مع البي بي سي تحدثت فيه عن سجني وتعرضي للتعذيب، واعتبرَ العديد من أصدقائي هذا انتحار، واعتقلت بسبب نشاطي الإعلامي مرتين، لكن خوفي لم ينكسر تماماً”. ورغم ظهوره الإعلامي، إلا أن عامر لم يجرؤ على وضع اسمه على سلسلة أفلام وثائقية صورها وأخرجها توثق الحراك السلمي، وذلك “لأنها تتجاوز كل الخطوط الحمر عند النظام، كنت سأُقتل بالتأكيد” بحسب قوله.

لكن الوضع كان مختلفاً في المناطق الأبعد عن العاصمة السورية، ففي ريف ادلب رُسمت حدود مبكرة بين مناطق أمنية يُمنع الاقتراب منها، وأخرى تم غض النظر عنها، وأتيح للمظاهرات والعمل المدني بأن ينحصر بها. ففي مدينة كفرنبل التي لُقّبت بـ”أيقونة الثورة الثقافية”[9] لعملها الإعلامي الذي وصلت أصداؤه للعالم، عمل فريق إعلامي صغير بإدارة رائد الفارس على لافتات باللغتين العربية والإنكليزية، ورسوم ساخرة وثّقت الحراك بمراحله المختلفة. الفريق نفسه عمل على مجلة محلية واسمها “المنطرة” كان رسّام كفرنبل، أحمد جلل، من هيئتها التحريرية. وعن ممارستهم للرقابة الذاتية في ذلك الوقت يقول أحمد[10] “في بداية الثورة لم تكن مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الانتشار والتأثير في منطقتنا، وكان من يحمل عبء قيادة وتحريك الشارع هم فئة قليلة، أي ثوار الـ2011، فبدأنا بالعمل على المجلة كوسيلة لنطرح فيها وجهة نظرنا في الشأن الداخلي للثورة، مثل تعاطي الناس مع الثوار، وطريقة تعاطي الثوار مع الناس، أي أن الهدف كان التركيز على النقاط الجامعة، وكنا نمارس رقابة ذاتية بحجب المعلومات التي نعتقد بأنها لا تخدم الثورة بحسب وجهة نظرنا في ذلك الوقت”. ويشير أسامة أيضاً لرقابة كان يمارسها شخصياً متعلقة بإيمانه باللاعنف والقلق من ترصد الآخرين لما ينشره، عن هذا يشرح “أحيانا كنت أستشير من أؤمن بآرائهم اللاعنفية، مثلا عن كتابة نعوات من شهداء الجيش الحر، أو عندما أتكلم عن عمل إيجابي قام به المسلحون، بالتأكيد كنت أيضاً دائم التفكير بردة فعل الآخرين على ما اكتبه، مثلا ماذا سترد التنسيقية الثانية التي كان خطابها أكثر شعبوية مننا؟، وفي نهاية عام 2011 بدأت الانقسامات، وأصبحنا نتهم بأننا علمانيين ولا نريد اسقاط النظام، وبذلك صرت أحسب كلماتي لئلا أترك مجالا لترصد الآخرين لي”.

ولا تترك مجموعات الضغط للصحفيين/ات من مخرج، فإما فرض رقابة على المعلومات والحقائق التي جمعوها، أو تحمل النتائج[11]، وبالتالي تحوّل الرقابة الذاتية غير المركزية هذه المرة الصحفيين/ات من العمل على إطلاع الجمهور على الأحداث بموضوعية، وتغطية القضايا الإشكالية، ليساوموا على المعلومات ويبحثوا عن قضايا أقل حساسية يمكنهم أن يتطرقوا لها. وهذا ما اضطر أسامة لفعله، في نهاية عام 2011 عندما كانوا يريدون أن ينشروا بياناً واضطروا لتحاشي تضمين كلمة “علمانية” فيه، “لا نريد أن نتسبب بإشكاليات من أجل كلمة” يقول أسامة، مشيراً إلى ممارستهم نوعاً من الرقابة التي تحدث عنها أحمد سابقاً.

“مثلا عندما يقوم الشبيحة بضرب شخص وسرقة سيارته، نكتب عنهم باسم الشبيحة، لا قوات موالية للنظام، وبالفعل كما هو، أما عندما يقوم الأخوة المقاتلين بنفس الفعل فنكتب أن هناك مشكلة حدثت بشارع البلدية وانتهت بتدخل الأهالي” يشير أسامة.

وبسبب “الضغط المجتمعي”، اضطرت صفحة تنسيقية “داريا” التي تبّنت النضال اللاعنفي، بعد مجزرة داريا عام 2012، إلى نشر أخبار العمليات المسلحة التي تحدث في المنطقة، “لأننا كنا ندعو للسليمة ونرفض التسليح، اتهمنا الناس بأنا نبتعد عن الأرض، وخطابنا لا يشبه الشارع، فاضطررنا للمساومة” يقول أسامة.

وبهذا بدأ الصحفيون/ات السوريون في أواخر عام 2011 بالقلق من “الشارع” ورأي “الشارع”، يضف أسامة “ومنذ ذلك الوقت بدأنا نخسر حريتنا بالتعبير، فأصبح الشارع يوجه بوصلة المثقف والنخب بعكس المفروض، وعندما كنا نشير لذلك، كان أصدقاؤنا حتى من المعارضة يردون بأن الناس تريد هذا وعلينا أن نمشي على وقعهم، ووقعنا في فخ تحويل الشارع للإله للرقابة”.

وينوه أسامة للقلق الذي انتابه في ذلك الوقت مما سيُكتب أو يقال عنه عندما يعبّر عن رأيه، وخاصة من جمهور المظاهرات و”الشارع الثوري” كما يسميه، ففي الأشهر الأخيرة من 2011 بدأ بعض الناشطين/ات يتعرضون للتسقيط والإلغاء بسبب طرح أراء غير الشعبوية “لا تتوافق مع الشارع”.

ويتفق عامر مع أسامة ويقول بأن: “القصة أصبحت معقدة أكثر بكثير مما كانت عليه بمناطق سيطرة النظام الذي تعّلمنا كيف نتعامل معه ونعرف حدوده وهوامشه، فبدأت موجة جديدة من التشبيح، مثلا عندما كنت أزور مناطق سيطرة المعارضة عام 2012 كان يُعتبر عدم ترديد لشعار (قائدنا للأبد سيدنا محمد) خيانة للثورة، وأية وجهة نظر مخالفة أصبحت جريمة، وهذا مرعب”.

وصف الكاتب أمجد سمحان[12] العمل الصحفي في هذه البيئة بـ”حقل الألغام”، فعندما يريد الصحفي أن يكتب تقريره عن أي موضوع جدي ومهم، فكأنه يمشي في حقل من الألغام، “وهذا يحد بشكل كبير من التغطية المهنية والموضوعية، ويجعل المحتوى الإعلامي- مهما بلغ من الجودة- أعرج في أحسن الأحوال”.

ولأن مجال العمل العام بدأ يتحول فعلاً لحقل ألغام في سوريا، حيث قُتل فيه 711 من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام منذ عام 2011 إضافة إلى إصابة ما لا يقل عن 1563 بجراح متفاوتة، وذلك على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ آذار 2011 حتى أيار 2022 [13]، بدأت حدود الرقابة الذاتية تضيق من جديد، مُحاصرة بين تيار شعبوي أطلق عليه أسامة اسم “آلهة الشارع”، وكتبت عنه أنا باسم “أرباب الثورة”، لينضم لمخاطر أمنية تصل حدّ القتل، من تحريض ينطلق غالبا من منشور على الفييس بوك، ليصل لحكم بالسجن أو القتل.

الصحفية زينة بيطار التي تعمل منذ أكثر من عقد مع وسائل اعلام سورية، كما أنها انضمت للعمل مع عدّة مؤسسات إعلامية بديلة تقول[14] “بحسب رؤيتي كان هناك توجه عام لدى أغلب المنصات والمنابر الإعلامية البديلة المعارضة لعدم نشر الأخطاء أو الإشكالات المتعلقة بمناطق المعارضة، وفي الواقع في كثير من الأحيان كان نشرها يعني تعريض أحدهم للخطر، أو إمكانية حدوث تصاعد دراماتيكي للأحداث وصولاً إلى نقطة حرجة جداً، وعليه في كثير من الأحيان كان الأمر مفهوماً، لكن ليس دائماً”.

وتنوه بيطار إلى أن العامل الأمني الخاص بالصحفي/ة ليس العامل الوحيد في تعزيز حدود الرقابة الذاتية، بل أيضاً الخوف على سلامة المصادر، تقول بيطار “النظام السوري لم يكن يتوانى عن اعتقال أو اغتيال كل من يفضح جرائمه، لذا للأسف في كثير من الأوقات كنت أستمع إلى شهادة أو أعرف معلومات مهمة، ولكن نشرها كان يعني تعريضي أنا شخصياً عندما كنت في سوريا، أو تعريض أشخاص آخرين للخطر، وهنا كان الحس الصحفي يتصارع دائماً مع الرقيب الذاتي المسؤول عن السلامة والأمان، ولا أنكر أن رقيب السلامة والأمان هو المنتصر”.

تحايل العديد من الصحفيين/ات على هذه المخاطر باستخدام الأسماء الحركية للصحفيين/ات أنفسهم/ن والمصادر أيضاً. لكنّ كلاً من عامر وأسامة وأحمد رفضوا استخدامها شخصياً واستمروا بالنشر بأسمائهم الكاملة. في أول مقابلة أجريتها مع أحمد عام 2011 لصالح جريدة الحياة [15] مع رائد الفارس، سألتهما هل يفضلان أن استخدم اسماً حركياً، فأجاب كل منهما دون تردد “استخدمي اسمي طبعا، قبرنا الخوف وأسقطنا النظام بكفرنبل”، لكن المُحررة قررت إزالة اسميهما حرصاً على سلامتهما لتنشر المادة دونهما.

أما عن رقابتي الذاتية فقد بدأت تعود للحياة عام 2013 مع سيطرة “أحرار الشام” على الرقة، وقمعهم للمظاهرات التي بدأت تخرج ضد سرقاتهم ، فوجدت نفسي أعود للكتابة بحذر عن شعارات المظاهرات وأبرزها ”ياحرام يا حرام.. باقونا (أي سرقونا) باسم الإسلام“.

في ذلك العام عادت حدود الرقابة الذاتية لخنق أية أصوات غير شعبوية، وعادت الاستخبارات لتتلصص على الآراء والأفكار، لكنها هذه المرة لم تكن مركزية، كما الفطر، كانت شعب المعلومات والمخابرات تظهر وتختفي هنا وهناك دون أثر في سجون جديد وتهم مُحدثّة.

يقول عامر: “كان التهديد مخيفاً بالنسبة لي أكثر من تهديد النظام، عندما كنت سافر من الرقة لحلب، أمر بخمسين سجناً، وفي الرقة لكل فصيل سجن خاص، وأي نشر لانتهاكاتهم أو تصريح لا يعجب أي منهم توضع في سجن، وقد تُقتل تحت التعذيب دون محاسبة”.

ومع استعار الحرب وزيادة الضحايا المدنيين، ساهم المجتمع أيضاً بقمع حرية الصحفيين وتحديد حركتهم/ن، عن هذا يروي عامر “عندما كنا نتحرك مع الكاميرا، كان الناس يبصقون علينا، يتهمونا بأننا سبب القصف، المجتمع أصبح أيضاً يفرض قوانينه، وأي شخص لديه السلطة ليمارسها ضدك، ويحدد حريتك كصحفي بالتحرك والعمل”.

يُضاف إلى العوامل الأمنية والمجتمعية، عنصر جديد أصبح رائجاً بعد عام 2014، وهو حملات التشهير ضد الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر حسابات وهمية أو حقيقية تعيش في دول لا يوجد فيها قوانين ناظمة لاستخدام الانترنت، وشخصياً تعرّضت للعديد منها، سببت إحداها خروجي من مناطق سيطرة المعارضة في حلب، والأخيرة ذهبت بها للشرطة لأشتكي على ناشط سوري “مترصّد” يعيش في بريطانيا.

لم يكن حال عامر بأفضل مني، “في عدة مراحل خلال هذه السنوات أجد حملات تطالب بقتلي لأني طرحت وجهة نظر مختلفة، مثلا عملت على فيلم عن السجناء وفي المرحلة الأخيرة لم أنشره، لأن فيه تصوير لعناصر أمن من النظام مسجونين عند جهة ثورية، خفنا من أن أي تعاطف يبدو مع سجين من النظام، سيحولني لخائن. الحرب الفكرية والنفسية والخوف من أن يضعنا جمهور الثورة على المقصلة دفعتني لأوقف العمل على الفيلم بمراحله الأخيرة”.

لكن الرقابة الذاتية وتجنب الصدام لا يحمي دائماً من مخاطر الاستمرارية في العمل المهني، يروي أحمد “بعد ظهور التنظيمات المتطرفة، غيرنا في معايير رقابتنا الذاتية لأن التعبير كان يشكل خطراً مباشراً على حياتنا أو حريتنا، بعد سلسلة من الأحداث التي اعتقل فيها المرحوم رائد الفارس مرتين من جبهة النصرة بالإضافة إلى تعرضنا للتهديد أكثر من مرة، أصبحنا نطرح بعض المواضيع الحساسة بطريقة رمزية وغير مباشرة”.

توقفت مجلة “المنطرة” عدّة مرات بسبب تهديدات متعددة، كذلك الأمر مع راديو “فريش” المشروع الإعلامي الرديف لها، ودفع ثلاثة إعلاميين من “اتحاد المكاتب الثورية” الذي يدير هذه المؤسسات الإعلامية حياتهم اغتيالاً بسبب تجاوزهم لحدود الرقابة الذاتية، وهم خالد العيسي، رائد الفارس وحمود جنيد.

يقول أحمد “ثلاثتهم دفعوا حياتهم ثمنا للحرية، المجلة فقدت الكثير من تأثيرها ولم تعد تُطبع، وأصبح راديو فريش عاجزاً عن بث أي موضوع يثير حفيظة جبهة النصرة من قريب أو بعيد، وهو ثمن استمرار وجود الراديو وعدم إغلاقه”.

إضافة للموت والاعتقال، هناك اعتداءات وحملات خاصة بالصحفيات، تجعل من اغتيالهن معنوياً أمراً سهلاً، وتدفع العديد منهن للابتعاد أو الانعزال. في مادتها عن التهديدات التي تتعرض لها الصحفيات كتبت سامية علاّم [16] “هناك جانب بغيض مشترك جعل استهداف النساء أكثر خصوصية وخطورة من استهداف أي من النشطاء الرجال، حيث يتم التركيز على تشويه سمعة النساء والمساس بالمقربين لديهن، كما اقترن الاتهام بالعمالة دائماً بالاتهام بالعُهر”. وأكدت على هذا دراسة أجرتها اليونيسكو مع المركز الدولي للصحفيين [17]، حيث تبيّن أن 73٪ من الصحفيات تعرضن للعنف عبر الانترنت، 25٪ منهن تعرضن للتهديد بالعنف الجسدي و 18٪ منهن للتهديد بالعنف الجنسي، كما تلقى 13٪ منهن تهديدات بالعنف ضد مقربين منهن. وأفادت 41٪ من الصحفيات بأن الاعتداءات التي استهدفتهن عبر الإنترنت تمت في إطار حملات تضليل إعلامي منظمة.

في عام 2015، كنت واحدة من أولئك الصحفيات، لدفاعي عن حرية التعبير، ووقوفي ضد قتل صحفيين، كان “العهر” هو أقل التهم التي طالتني، أما أكبرها، ففتوى صدرت بحقّي بالردّة المغلّظة من المحكمة الشرعية في شرق حلب [18]، وفي الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2016، أعلنت عودتي للجلد الحديدي واستسلمت تماما لرقابتي الذاتية بمدونة كما بدأت.

كان عنوانها ”أنا المدني الحقير“، وفيها أضأت على التحديث الذي طرأ على آليات القمع، لكني اخترت الاختباء خلف شخصية ”مدني حقير“ في تحايل جبان عن ذكر الحقائق كمادة صحفية[19]. في المدونة كتبت:

تغّير اسم عنصر الأمن (سياسي، عسكري، جوي..)، ليصبح: أمنّي (الأحرار، النصرة، الصقور..)، وأُضيفت صفتي “شرعي وشرعية” على القاضي والمحكمة. وبدلاً من وساطة أبو علي وأبو جعفر وأبو حيدر لتسيير أموري في الدوائر الرسمية، أصبحت أتواسط أبو محمد الجزراوي وأبو الزبير التونسي، وأبو طلحة الأفغاني، لكني مدني حقير لا أستطيع الوصول لأي من هؤلاء الأسياد والشيوخ، فقد أُرمى في الظلم شهوراً دون حسّ أو خبر.

وبعد حملة ممنهجة من الحريصين/ات على سمعة ”الثورة“ والتكذيب والاتهامات التي تجاوزت بأضعاف تلك التي نلتها من مؤيدي النظام عند نشر مدونتي الأولى، توقفت عن الكتابة تماماً، وخاصة باللغة العربية.

خنقتني رقابتي الذاتية وصمتت لسنوات، حتى المواد القليلة التي تجرأت على نشرها باللغة الانكليزية رفضت عروض ترجمتها، كسيت الرقابة الذاتية برداء ملون وحديث، أطلقت عليه اسم ”طاقة سلبية ووسط مسموم“ لتبرير انتصارها عليّ، وأنزلت قناعي الحديدي من السقيفة ووضعته طوعاً هذه المرة، بعد تلوينه ورسم أزهار وابتسامات عليه.

كذلك فعل عامر أيضاً الذي توقف عن النشر والكتابة منذ سنوات، يقول عامر “لم أعد أخاف من النظام، بعد أن تقطع حدوده، ينتهي، لتجد مجتمعك يمارس عليك الرقابة بشكل وحشي، إذا تناولت أي شيئ يمس العادات والتقاليد والدين والقيم المقدسة والثورة، توقفت عن التعبير عن رأيي والنشر، لم أعد أكتب، وأعمل العديد من المشاريع دون وضع اسمي عليها. ليس خوفاً، هو إحساس باللاجدوى، لا أريد أن أتكلم بعد الآن.”

من ناحيته شددّ أسامة قيوده على حرية تعبيره رغم كونه خارج سوريا والحصار الآن، وخاصة بعد أن تعرضت مجلته للإغلاق بشكل كامل في عام 2017 بسبب مادة صحفية وُصفت بأنها “مسيئة للذات الإلهية”، حيث أصدرت كل من محكمة “دار العدل في حوران” العاملة في المنطقة الجنوبية، ومجلس “القضاء الأعلى” في الغوطة الشرقية، ومجلس “القضاء الأعلى” في حلب، قرارًا يضع نهاية لنشاط مجلة “طلعنا عالحرية” في سوريا. وعن الرقابة الذاتية التي يمارسها الآن بعد عودة المجلة يقول: “أصبحت انتقي مواضيعي بحذر، وساعدني أن جريدتي نصف شهرية، فلست مطالباً بمتابعة راهنة، أصبحت انتقائيا، انسحبت من كل المعارك، ولم أخض أي من المعارك الداخلية، عندما كنت مُحاصراً في غوطة دمشق نشرت مواداً ومعلومات جريئة متعلقة بخطف أصدقائنا ضد جيس الإسلام، لا أستطيع نشرها الآن وأنا في بريطانيا”

يمكن تفسير هذا الانكفاء والانسحاب بما وجده بورز [20] في بحثه، بأن التعليقات عبر الإنترنت التي تهاجم احترام الفرد لذاته أو تثير الشك في استمرارية الفرد يمكن أن تشكل تهديدا لتقييم الهوية، وقد تكون دافعاً أساسياً للرقابة الذاتية.

ويشير بورز إلى أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عندما يتعرضون لتهديدات الهوية، قد يديرون انطباعاتهم لتجنب الصراع والحفاظ على احترام الذات، وتفعل الرقابة الذاتية على استخدامهم لتلك الوسائل.

وتستخدم الرقابة الذاتية تحديداً في العديد من المجتمعات الانتقالية كآلية للتكيّف وفي كثير من الأحيان كاستراتيجية للبقاء (بالمعنى الحرفي والمجازي).

وتؤدي هذه الاستراتيجية الفردية في السياق السوري إلى انسحاب الأصوات المغايرة والمتنوعة، مما ينتج عنه خسارة المجتمعات للحقائق الكاملة، وسيادة اللون الواحد، والصوت الواحد مجدداً. ويرى عامر أن هذه الحدود والإسكات المباشر وغير المباشر للأصوات غير الشعبوية، أثر على الرواية السورية للأحداث، ويقول “إذا لم يكن الفيلم او المنتج الإعلامي مروّجا للبربوغاندا الثورية، يُرفض ويُهاجم، فقد تأثرت أساليب السوريين/ات في القص والرواية، أصبحنا خائفين ومرتبكين من التعبير عن أي شيئ بحرية وصراحة، نفكر مئة مرة قبل إنتاج أي محتوى، هذا لوحده يحد قدراتنا الإبداعية”.

وبينما ترى زينة بيطار أن السوريين رفعوا عموماً سقف الحريات خلال السنوات الأخيرة، “فبتنا نسمع أصواتاً تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار”، وتستدرك لتشير بأنها في الوقت نفسه ما زالت تعاني من هواجس متعلقة برقابة ذاتية “وهي قول الحقيقة، وإيصال معلومة دون المساس بسلامة أحد وأمنه، وفتح باب التأويل أو التصيد بحيث تقدم الحقيقة والمعلومة المفيدة كأضحية على مذبح الصراعات السياسية”.

أما عامر، فيرى أن الإعلام السوري البديل لم يقدم البديل، وهو غير نقدي ومحدود برقابته الذاتية مقدماً وجهات نظر شعبوية، فالقلة مستعدون/ات للتعامل مع نتائج السير عكس التيار القاسية.

يقول الكاتب البريطاني جورج أوريل في روايته مزرعة الحيوانات “يمكن إسكات الأفكار غير الشعبية، وإخفاء الحقائق المزعجة، دون الحاجة لأي حظر رسمي”.وهو ما يبدو أنه مُطبّق فعلياً في السياق السوري، وبهذا يأمن ويحتمي الشعبويون/ات بجماعاتهم/ن ويخصصون مجموعات عمل افتراضية لتنظيم حملات الإقصاء و”الإلغاء” ضد الآخر، الذي كان قبل سنوات في الخندق نفسه إلى أن ساورته نفسه ليروي سياقاً مختلفاً للأحداث. وبهذا تعود حكاياتنا لثنائيات للأبيض والأسود والشر المطلق الذي يواجه الخير الصافي، دون صدق ولا عمق برؤية واحدة وصوت واحد، رتلاً أحادياً، تماما كتلك التي درسناها في كتاب القومية البعثية.

وكما هي حال الحرب السورية على الأرض، لا توجد حدود حادّة تفصل فرق القامعين عن أولئك المقموعين، ومن يحارب من أجل حقه ومجموعته في التعبير في آذار قد يهاجم ويطالب بقتل شخص لأنه عبر عن رأيي مخالف في نيسان، بغض النظر عن توجهه السياسي وطائفته وخلفيته العملية.

ينطبق هذا على كل التقسيمات التي مرّت على السوريين/ات من مؤيد ومعارض؛ مثقف و”شوارعي”، إسلاميين/ات وعلمانيين/ات، دعاة السلمية وأنصار السلاح، ثوار الخنادق ومعارضة الفنادق، نسويات وذكوريين…إضافة لانقسام الولاءات للدول المختلفة والمتورطة في الصراع السوري.

وبهذا يمكن أن ينتقل المُصادَر رأيه عندما كان معارضاً للنظام، إلى مُصادِر لآراء الآخرين لإسلاميتهم أو علمانيتهم، ثم يُبدّل ليُقمع عند تعبيره عن آرائه في حقوق النساء وينتقد القمع مطالبا بإعطائه المساحة الآمنة للتعبير عن رأيه، وعندما تدخل الدولة التي يواليها عسكريا لأرضه يكتب التقارير بالعملاء الذين كتبوا ضدها لينالوا جزاءهم.

الثابت الوحيد في هذه المعادلات والمجموعات التي تشتبك ويُعاد تشكيلها في مناسبات وأحداث عدّة، هو العداوة، والحقد والغضب الذي يتوجه نحو كل من تسوّل له نفسه أن يتفّرد بعيداً عن القطيع ويعبّر عن رأي مختلف (لا يكون بالضرورة مخالفاً)، كما حدث عند وفاة المعارض ميشيل كيلو، حيث هوجم العديد ممن كتب عنه طالباً له الرحمة، لأن “الرحمة لا تجوز على المسيحي”![21].

وحتى عند الأحداث السورية التي نجحت بتقريب السوريين بمختلف أطيافهم عبر رابط الذاكرة المُشتركة، كوفاة الممثل والمخرج حاتم علي، خرج من أسميتهم بمدونتي الأولى بالـ”عيّاطين” يلقون العِظات من الطرفين محاولين اثبات أن حاتم كان معارضاً أو مؤيداً، وبالتالي يستحق من يترحم عليه أن يُهاجم.

وفي كل المعارك بين هذه الدوائر المتغيرة، يلعب العدد والكثرة دوراً في رسم الحدود التي أسماها كلاً من عامر وأسامة بـ”الرقابة الشعبية”، يُضاف إليها التطرف، فكلما اعتدل الرأي والصوت كلما ازداد عدد مهاجميه وخسر نصر جماعة دائرته، أما اذا خرج عن حدود “المألوف والمُتعارف عليه والمرسوم شعبويا” عندها يصدر بحقه/ا حكم “التسقيط”.

ليس بالضرورة حتى أن تكون الأحداث على الأرض السورية لتشعل فتيل معارك افتراضية، ومُجدداً يحظى أصحاب وصاحبات الآراء غير الشعبوية بسلسلة من الهجمات تنتهي بإسكاته، آخر هذه الأحداث وفاة الملكة البريطانية إليزابيث الثانية، فلم ينشغل السوريون/ات المقيمون/ات في المملكة المتحدة فقط بهذا الحدث، وإنما اشتغلت الخلافات بين من يحتفي بإنجازاتها وحقبتها، وبين من يذكر حقائق تاريخية موثّقة عن تاريخ بلدها الاستعماري والعنصري في ظلّ جلوسها على العرش.

ولا يُفسد الاختلاف بالرأي للود قضية فقط، وانما يتلوه غالبا هجومات مُشخصنة تستهدف أصحاب الآراء، وعلاقاتهم الشخصية، أقرباؤهم، ملابسهم، أسلوب حياتهم ووصلت في العديد من الأحيان لقطع الرزق، باستخدام قوة العلاقات للضغط على أرباب عملهم لفصلّهم/ن بسبب رأي أو تعليق لا يتضمن دعوة لجريمة أو تحريض على عنف. والأخطر أن هذه الدوائر تحوّلت رغم مرونتها لأسوار حصينة، فالبعض يُحسب على مجموعة إن شوهد مع شخص منها أو لم يعلن علناً موقفه من حملات تشويه لسمعتها، وبهذا تُجبرك الدوائر الأخرى على العُزلة والالتزام بمجموعتك.

كما ساهم بروز ظواهر “المؤثرين/ات” على وسائل التواصل الاجتماعي في إضافة طبقة جديدة من الرقابة الذاتية على من يتعرض لأي حدث بموضوعية، إذ يستغل المؤثرون/ات منصاتهم لحملات تشويه سمعه تبني لهم جمهوراً عريضاً من كارهي من يهاجمون، أو من المستمتعين بمتابعة الدراما، ولأن صفحات المؤثرين/ات أصبحت باب رزق يعيشون منه، لم يعد بإمكانهم/ن أن يخرجوا/ن من هذه الحلقة المفرغة، الهجوم، مصادرة الآراء، المزيد من المتابعة، المزيد من المردود المالي.

ورغم اختلاف نسبة الأرباح من الفيديوهات المنشورة على منصة “اليوتيوب” لتكون بين 0.23 و 0.83 دولار لكل ألف مشاهد للإعلان في سوريا، فإنها ترتفع حيث يحقق المستخدم من كل ألف مشاهدة ربح أدناه 8.03$، وأعلاه 12.17$[22]، فإن نجا صاحب/ة الآراء غير الشعبوية من السجون والمسلحين على اختلاف توجهاتهم، ولم يتمكن مخالفوه من طرده من عمله أو عزله عن محيطه في منفاه، يتردد في التعبير عن أي موقف علني، خوفاً من أن يقع فريسة في لسان المدونة فلانة أو “اليوتيوبر” علاّن، وبهذا تصبح سيرته وحياته الشخصية مادة للنقاش على لسان آلاف المتابعين/ات الذين يسهمون في زيادة عائدات المدونين ووتتويج رقباء التعبير والتغيير. قبل وفاته قال لي خالي الكبير: “لماذا تجعلين عائلتنا علكة في فم فلان؟ ابتعدي عن المواضيع التي تزعجه منك، ماذا سيحدث يعني إن لم تكتبي رأيك؟”، تعبر هذه النصيحة عن تيار واسع من الضغوطات الإضافية، التي تأتي من المُعادين كما المُحبين، وكلها تنصب في خانة واحدة، كُتب على بابها “اصمت تسلم”.

خاتمة

قد يبدو بأن صفحات البحث كانت حافلة بضروب المعاناة النفسية والعاطفية والإنفعالية، الناجمة عن التحديات التي واجهها الصحفيون والصحفيات في تغطيتهم للأحداث السوريّة، ومارافق هذه التغطية من جدل متعلق بوظيفة الإعلام ورسالته، والكيفية التي ينبغي أن تؤدى بها هذه الوظيفة، واستكمالاً للفائدة، نشير لبعض الاستنتاجات التي نعتقد بأنها جوهرية عند التفكير بموضوع الرقابة الذاتية والإعلام البديل خلال الإحدى عشرة سنة الماضية.

أولاً: المعنى الأبرز والأخطر (للرقابة الذاتية) في مجال الإعلام، بكل أشكاله وصوره، هو: حجب الحقيقة وإخفاؤها، أو على الأقل، حجب أجزاء منها، قد تكبر أو تصغر، مما يؤثر – سلباً – على أداء المادة الإعلامية لوظيفتها، المتمثلة بإطلاع الجمهور على الوقائع، بأبعادها الثلاثية وسياقاتها المختلفة، بكل شفافية وصدق ومهنية، بضمانة من الوازع الأخلاقي للصحفي والصحفية. ففي غياب السردية الموضوعية التي لا يستطيع أحد توفيرها إلا الإعلاميون، سيكون من المتعذر على المهتمين صوغ رؤيتهم ومواقفهم مما يجري، وسيتعذر عليهم ايضاً الإنخراط في حوار بناء ومعقول حول الواقع، الذي يتصف بالسيولة وسرعة التغير.

ثانياً: من المؤكد أن للحالة السورية خصوصيتها، واعتباراتها المعقدة، ومن الطبيعي في أحوال كالحرب السورية مع كثرة القامعين وتنوعهم، أن يتحول الجمهور إلى (جماهير) أو إلى (شوارع سياسية) شديدة التباين، فلكل منهم رؤى أيديولوجية وسياسية مختلفة حول أنماط المقاومة وأساليبها أولاً، وحول دستور الدولة ونظامها السياسي ثانياً، هذا عدا عن  تباين المصالح السياسية والإجتماعية والإقتصادية للفرقاء جميعهم، إضافة لتعصباتهم وانحيازاتهم الداخلية وحقيقة إيمانهن بحقوق الإنسان ومبادئها. كل هذا يفسر رغبة البعض بأن تكون اللغة التي يستخدمها الصحفيون والصحفيات (لغة مراوغة)، وخاصة عندما يتعلق الأمر برصد الإعلام لبعض الأخطاء والتجاوزات التي من المفترض السعي إلى تصحيحها، بدلاً من السكوت عليها ومحاولة تجميلها. وتتضخم هذه الظاهرة عند تحول الاتجاهات الإيدولوجية والسياسية المتباينة والمتخاصمة إلى (سلطات أمر واقع) تعتقد كل منها أنها هي التي تمثل الحقيقة، وتعبر عن التوجه الوطني والثوري الصائب. وهذا ما يكشف عن الأصول الشعبوية لهذه السلطات.

ثالثاً: وهكذا تتحول الرؤى الشعبوية إلى عقبات وقيود على حرية التعبير، ومن ثم تستنسخ الجهات المعارضة للنظام بعض ممارساته، وتظن أن من حقها إيقاع القصاص على الصحفيات والصحفيين، تدعمها الإيديولوجيات المبسطة التي أنتجها وينتجها مؤثرون/ات اجتماعياً يحظون/ين بشعبية ومتابعة من جموع السوريين والسورييات، وإذا بالذين ثاروا بالأمس على قمع النظام لحرية التعبير فريقاً واحداً، أصبح بعضهم يود اليوم الاستئثار بالسلطة القمعية واخضاع شركاء الأمس إلى ما كان النظام يفرضة على الجميع.

رابعاً: إن شيئاً من التحليل لآلية حفظ البقاء التي مارسها الإعلاميون والإعلاميات -ونعني بذلك الرقابة الذاتية- يكشف لنا بوضوح عن أن السوريين/ات، بالرغم من شعاراتهم/ن الأولى لم يتحولوا/ن بعد إلى أمة من الديمقراطيين، الأمر الذي يعتبر غير مفهوم في سياقنا. فتاريخ الثورات الديمقراطية جميعها يشهد على أن الإنتقال إلى الديمقراطية هو حدث متأخر ويكون في العادة مسبوقاً بأحداث عاصفة وغريبة ومتناقضة مع الأهداف المعلنة للثورة.

خامساً: يلفت البحث أنظار المهتمين باقتراح صياغات دستورية للدولة السورية المقبلة، إلى أن مهمة الدساتير تتمثل – أولاً وقبل كل شيء- في إدارة التنوع والاختلاف داخل المجتمع الواحد، وعلى نجاح هذه الإدارة يتوقف الانتقال من مجتمع أهلي بكل أطيافه وقبائله وتجمعاته الاجتماعية المختلفة إلى مجتمع سياسي مدني عصري يعترف الجميع فيه بقيمة المواطنة، ويقبلون بالإحتكام إليها في خلافاتهم عند حدوثها.

…….

[1]  https://2u.pw/bpiUJ زينة ارحيم، ”أنا مندسة وعميلة وجاسوسة..لكني صديقتك“، مدونة شخصية 2011

[2] 1.د. مداح خالدية، ” الرقابة الذاتية لدى الصحفيني الجزائرين“، جامعة الجزائر، 2013 (ص.52)

[3] محمود الفطافطة، تأثير الانتهاكات على الرقابة الذاتية لدى الإعلاميين الفلسطينين، المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية (مدى)، 2010

[4]  د. هاني نادي عبد المقصود، ادراك طالب الجامعة لمفاهيم التربية العالمية وعلاقته بمستوى الرقابة الذاتية على المضمون المقدم بوسائل الاعلام التقليدية والجديدة، المجلة العربية لبحوث الاعلام والاتصال (ص: 251) 2020.

[5] Hayes, A. F., Glynn, C. J., & Shanahan, J. (2005b). Validating the willingness to self-censor scale: Individual differences in the effect of the climate of opinion on opinion expression. International Journal of Public Opinion Research p.2

[6] Cronau, P.. Self-censorship: the most insidious gag. Pacific Journalism Review 1995 p2

[7] أسامة نصار، مقابلة شخصية مع زينة ارحيم عبر الإنترنت، آب 2022

[8] عامر مطر، مقابلة شخصية مع زينة ارحيم عبر الإنترنت، أيلول 2022

[9]  https://2u.pw/XvFum  جلال بكور، كفرنبل أيقونة الثورة السورية، العربي الجديد 2020

[10] أحمد جلل، مقابلة شخصية مع زينة ارحيم عبر الإنترنت، أيلول 2022

[11] Riva- Palacio, 2006; Hayes, Scheufele, & Huge, 2006; Lee & Chan, 2008

[12] . أمجد سمحان، عندما يكتب الصحفي الفلسطيني.. بماذا يفكر؟، مجلة تسامح، حزيران 2008

[13] الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التقرير السنوي عن أبرز الانتهاكات بحق الإعلاميين في سوريا في اليوم العالمي لحرية الصحافة 2022

[14] زينة بيطار، لقاء شخصي مع زينة ارحيم عبر الإنترنت، أيلول 2022

[15]  https://2u.pw/U5vuO  زينة ارحيم، فنّانان «مشرّدان» خلف لافتات كفرنبل السورية، جريدة الحياة 2011

[16]  https://2u.pw/FuebO سامية علام، حملات التشويه والتضليل تهدد حياة المؤثرات في العراق ولبنان، فايس العربية2021

[17] العنف ضد الصحفيات عبر الإنترنت، جوالي بوسيتي، نرمين أبو العز، كالينا بونتشيفا، جاكي هاريسون وسيلفيو ويسبورد، اليونيسكو والمركز الدولي للصحفييين 2021https://2u.pw/g2QZU

[18]    https://2u.pw/pLQ2c زينة ارحيم، أنا شارلي في شرق حلب، ترجمة من نيولاينز 2021

[19] زينة ارحيم، المدني الحقير، مدونة شخصية 2016

https://2u.pw/H2gid

[20] Powers E. Koliska M & Guha, P 2019- international journal of communication

C.-C Lee، 1998؛ F.LF Lee & Lin، 2006 ؛ Skjerdal ، 2010 ؛ تابسيل ، 2012)

[21] أحمد الرمح، في غياب ميشيل كيلو.. عندما يفقد التديّن إنسانيته، حرمون

shorturl.at/ghMOT

[22] shorturl.at/ahosZ علا وسوف، كم يدفع اليوتيوب مقابل 1000 مشاهدة 2022، مصاري،

هذا البحث منشور في العدد الحادي والعشرين من مجلة قلمون في أكتوبر 2011

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.