حسد وضيق عين..
أحسد من يستطيع اتخاذ قرار الابتعاد ويُفعّله بكبسة قلب تمحي أحساسه بالمسؤولية اتجاه من ثاروا لأجله٫ من تشظّت أوجاع الناس عنده لحكايا يُسارمر بها جلسات القهاوي الطويلة٫ أحسد من لغّم طريق العودة ولجأ لتلك البلاد البعيدة دون أن تتأثر معرفته العميقة بالثورة مقدار ذرة من رصاصة٫ ذاك الذي يملك قدرةً على تحليل وتركيب الواقع مستشهداً بأخبارٍ اصطادها من هنا وهناك٫ متجنّباً تجربة أوجاع من لم يصل إلى ماهو عليه إلا بفضلهم٫ خوفاً على قدّه النحيل من آثار ثوبهم المُحاك بإتقان بالسياج الشائكة.
أحسد من يستطيع إقناع نفسه أن مدناً هادئة جارة هي أقرب ما “يُمكن” الوصول إليه٫ وينسج عن زياتها حكايا بطولة يختمها بالمقولة الشهيرة “أنت مابتعرف أصلاً أنا شو عم أعمل للثورة”!! تلك الثورة ذاتها التي يقول إنها سُرقت منه من قبل الإرهابيين والإسلاميين الذين نزلوا إلى سوريا ديليفري مع طرود المتفجرات التي يرميها بريد الموت يومياً من السماء.
أحسد من لا يعرف معنى انتظار الموت بين صرختي طائرة وأرض٫ من لا تفرّق أذنه الموسيقية بين الهاون وصوت ارتطام رصاصة ال٢٣ التي ترّشها الطائرات الوطنية٫ من لا يميّز أيقاع قذيفة تعزفها دبابّة عن تلك التي تدندنها مدفعية شريرة٫ بين قرع برميل كفيل يقع في البئر٫ وصاروخ السكود المُتصدّر بعدد الانفجارات بثلاث وقعات كأثر حجر يركض على سطح الماء.
أحسد من لم ير تلك الوجوه التي هجرتها الملامح إلا عبر شاشة تمنحه حظوة إنهاء المشهد٫ وربما لا يعرف كم هو محظوظ ذاك الذي لم يسمع نحيب حبيبة شهيد تناديه بإصرار لينفض عنه الكفن ويوّدعها على تلّة ترابية أخبروها أنه دفن فيها “قوم يا قلبي..قوم يا روحي قوم…قوم دخيل الله قوم”..
أحسد من لم تحضنه أمٌّ لشهيدين وتبكي ملء تعبها٫ منتظرة منه حكايا جديدة عن الراحليَن متعمدْة تجاهل أنه يكرر لها ذات الحكايات منذ ستة أشهر.
أحسد من لم يسمع اسم صديقه هتّيف المظاهرات ضمن نشرة أخبار تتباهى بقضاء “بواسل الجيش العربي السوري” على أخطر الإرهابيين٫ صديقي الطيّب الذي يحب الغناء وتزيين سيارته المتواضعة بالقلوب الحمراء.
أحسد من لم يترك علبة نسكافيه على قبر صديق يحبها و بكل قناعة انتظره ليأخذها٫ من لم يزرع النرجس على قبرٍ مجاور ويسمع ضحكتي الجميليَن هازئة بجنونه مدوّيةً في تلك المزارع…
والرب يعلم كم أحس من لا يعرف ابطالا يراقصون الموت “سولو” طوال الليل ليعبّدوا لك بروحهم الطيّبة صباحاً طريقك سهلاً لمجرد أنك صبية مع الثورة وتؤمّن لهم.
وكم أحسد من لا تنفجر في حنجرته قنبلة عنقوية عندما يتخيّل خسارة صديق ليس ككل الأصدقاء٫ حيّاً هو أكثر من كلنا ومن ضحكته تنبع ألوان قزح في كل هذا الرماد٫ صديق أوصاني ألا أسمح لأحد بنشر صوره شهيدا٫ً فهو لا يريد أن يُذكر إلا حيّا ويضحك.
أحسد من لا يحتّل سيادة الموت قائمة أحاديثه الحميمية مع من يحب٫ ومن لا يخفق قلبه للحب مرة والخوف عشرين وهو بحضنه٫ من لم يتعلّق قلبه بصوت ينادي على القبضة “معك..معك” بعد أن يصرخ أحدهم بنزق الثوار “استشهد شب٫ حدا شاف أبو…” الإنسانية وأمها وأخوتها التسعة.
أحسد من يستطيع أن يقنع نفسه فعلاً أن كل من يحمل السلاح إرهابي أزعر يستخدمه لتحقيق مآربه الخاصة٫ أحسده لأنه لا يعرف مقاتلاً وسيماً اسمه أبو حمدو يترك كل معاركه ليؤازر ناشطاً مدنياً حاصره ضيق الإكتئاب٫ ولو بقطعة من شوكولا حنونة٫ خوفاً عليه من هزيمة تأخده مع جموع الراحلين عن هنا٫ حيث سيبقى.
وتضيق عيني على من يعتقل في رأسه قناعات راسخات ومواقف جليدية يستشرف من خلالها حاضرنا والمستقبل٫ من يملك أمبريرات كهربائية كافية لتشغيل المنفسة التي يعيش عليها ضميره٫ كأن يحاول إقناعك أن داعش جزءاً من الثورة وأن من في مثل كفاءته وإبداعه لا مكان لهم في المُحرر٫ بارع هو في ابتلاع حبوب منع الإحساس حتى يبقى على قيد الذكاء لتنتهي الحرب٫ وعندها فقط يبني مابقي من هذا الخراب.
و من يعقتد أن قتالنا مع داعش هو فخّار يطبّش بعضه ليصهروا مابقي منا ويصنعوها تحفّة فريدة يزيّنوا بنا تاريخم النضالي.
والله يعلم كم أحسد من يستطيع الاحتفاظ بثورته ضمن صفحات زرقاء ولقاءات ومؤتمرات ويؤمن حقيقة أنه يعمل لأجل الثورة أكثر من أهلها الذين مازالوا على قيد الحياة بالصدفة٫ من يعيش أيامه كما كان قبل الثورة ولم يتغيّر سوا عدد النشاطات الاجتماعية التي يشارك فيها وبعض الأوجاع البعيدة التي يتعاطف معها بكلمات نثرية يصيغها بإتقان على جدار افتراضي.
وكم تضيق عيني على من لم يزل قادراً على تمييز خصاله بين ركام الأرواح المعلقّة بخيوط رفيعة هنا٫ وبالتأكيد لن أنسى أن أحسد من ترتدي فساتين تحبّها وأحذية بكعب عال لم أتخيل يوماً أنها ستقصف رغباتي بقوّة قذيقة ٫ ١٣٠من لديها موعد تتجمّل لأجله كل يوم و حب تمشي معه إلى مكان ما.
أحسد من لم يتعلّم تعطيل تفكيره بالغد الذي عمل طول حياته للتأسيس له٫ من لا تضربه أسئلة “وبعدين٫ وآخرتا؟” بصواريخ كيماوية ورغم ذلك كله لا يملك إلا خياراً العودة أو العودة.
من أنا لأدعوكم لحكم العودة الشاقّة؟ أنا ابنة الصدفة التي أنجبتني لهنا من أبوين لا يتطايقان٫ صدفة درست الإعلام رغم كل التحذيرات والتهديدات بأنني سأعنّس وسمعتي ستمرّغ بالتراب لأنني على عكس كل صديقاتي سأذهب للعاصمة بدلاً من حلب ٫ وسأدرس الفرع الذي لا فرص للعمل فيه!.
صدفة أخطأني ذلك السكود بحارتين عندما أمضيت الليلة ببيت صديق في الرقة٫ والصاروخ الحراري في معرة مصرين والهاون المتراقص في دير الزور٫ صدفة صدّقت داعش أنني من كنت بالهوية سمراء بعيون بنيّة وتركتني أعبر٫ أيضاً بالصدفة قرر برميل طائش أن يشعل الأرض موتاً على بعد عدّة حيوات عني في حلب.
أما حسدي بالمرتبة الأولى فهو لمن يتعايش سلمياً مع الهيكل المعدني الذي يغطيه لحمه٫ ويجري فيه عصير أحمر مالح لا يقوم عند مروره في الطاسة العليا بإثارة حسده للآخرين على ما أحسدهم عليه.
أحسدكم..والله بهائها المكسورة….