“الأسد أو لا أحد” هو أحد الشعارات الرئيسية التي يبّناها أنصار النظام السوريّ، في إشارة إلى الخيار العدمي الوحيد المُقابل لبقاء النظام، وبعد عشر سنوات، أصبح عنوان “جماعتي أو لا أحد” جامعًا لكلّ الأطياف السوريّة. غابت ثنائية الخيارات الصارمة هذه، في العام الأوّل من الانتفاضة السلميّة؛ فظهر قوس قزح على شعار “لجان التنسيق المحليّة”، وتجلّى إيمانها العميق بالتعدّدية من خلال الطيف الواسع من الناطقين باسمها، من أكراد وعرب بطوائف متعدّدة ينحدرون من مناطق متنوّعة. وفي الهيئة العامّة للثورة السوريّة، عملت المعارضة العلمانيّة سهير الأتاسي في المكتب السياسي مع محمد علوش، الذي كان ناشطًا إسلاميًّا وقتها، قبل أن يؤسّس مع أخيه زهران علوش “جيش الإسلام” في الغوطة. بدأ الحراك على أرضية جامعة متينة، حرّية وحقوق إنسان و “سورية لينا وما هي لبيت الأسد”، سُمع صداها في التظاهرات التي هتفت لمدن لا تعرفها، دعمًا لطوائف اعتادت على تنميطها ومناصبتها العداء. أتذكر كم شعرت بالخجل في تظاهرة نسائية كنت أقود هتافاتها في إدلب، عندما صرخت “سنّة وشيعة وعلويّة.. كلنا بدنا حرّية”، ثمّ نظرت خلفي متوجّسة من انخفاض الأصوات الهاتفة، لأجد الأصوات ذاتها تتابع بنفس الروح، وإحداهنّ تنبّهني بأنّني نسيتِ الدرزيّة. خجلت من تشكيكي في إيمان أهلي بالتنوّع، وفي صدق مقاومتهم للدعوات الطائفيّة التي بدأت تتسرّب شيئًا فشيئًا للحراك.
في البدايات تشاركنا، حتّى مع المؤيدين، علمًا واحدًا كنا نحمله في التظاهرات، ويحملونه في مسيرات البيعة. حتّى عندما بدأ العلم الأخضر بالظهور، كان يسير في الشوارع جنبًا إلى جنب مع الأحمر، إلى أن بدأت الاستقطابات تحتدّ، وتحوّل حامل العلم الأحمر في يوم وليلة إلى “خائن/ موال للنظام، وبات المعارض الحقيقي هو من يحمل العلم الأخضر فقط”، مع تناسي مئات المتظاهرين الذين قُتلوا وهم يحملون هذا العلم. واستمرّت كرة ثلج الاستقطابات الثنائية تكبر وتكبر إلى أن ضربت أغلبنا: بين شبيح وثائر، رمادي شيطان أخرس، ثمّ ثائر من الداخل/ الخارج، مع الجيش الحرّ/ ضدّه، مطالب بالتدخل الدولي/ رافض له، مؤيد للمجلس الوطني/ مقاطع لهيئة التنسيق؟ مع المجموعات الإسلاميّة/ مع تلك التي موّلتها حكومات غربية؟ نازح داخلي/ في دول الجوار؟ تقبض راتب لاجئ من حكومة أوروبيّة أم تعمل بمنظّمة دوليّة؟ تُبرّر الوجود التركي في الشمال؟ ضربات التحالف؟ تشكيل المجلس العسكري؟ منصّة القاهرة أو موسكو؟
كضربة حجرٍ على بحيرة صافية، استمرّت هذه الموجات في الانتشار، وأصبحنا فجأة في مسابقة لا رابح فيها ولا حكم، عن “الأحقّيّة الثوريّة”، حيث يتبارز “الصح مع الخطأ”، وتتوزع صكوك الجنة والنار من الأرباب. ويتغيّر مركز هذه الموجات بتغيّر الكتلة الثوريّة، من مراكز الحراك السلمي في بدايته، لمناطق سيطرة المعارضة بعد دخول العمل المسلّح، ثم لغازي عنتاب التركية، قبل انتقاله أخيرًا إلى الدول الغربية مع هجرة العديد من ناشطي البدايات المعروفين إليها. ومع تغيّر المواقع، يهزأ أرباب الاستقطاب من صفات كانوا يطلقونها من مواقعهم السابقة على الآخرين “الخارجين الآمنين الذين ينظرّون بشعارات خاوية على المتعبين الفقراء بالداخل”، بعد أن أصبحوا هم الخارجين الآن.
وقد تحوّلت الآراء التعميمية المغلوطة إلى وصمات قاتلة لأيّ حلم بالعيش المشترك، فمن يعيشون في مناطق النظام مؤيدون له، ومن يعيشون تحت حكم (داعش) و(النصرة) هم بيئتها الحاضنة، كلّ من يقاتل ضدّ النظام أخيار وطنيون حتّى من بدّلوا اسمها لـ “أرض الشام”. أمّا مديرو هذه التعليميات والاستقطابات المتعدّدة، فشعبويون يعيش العديد منهم على أمجاد بطولات سابقة، وكلّما زاد تشدّدهم وحماسةُ شعاراتهم، ازداد تعصّب عشيرتهم وصرامة الحدود التي تفصلهم عن الآخر، وقد أصبح هذا الآخر معارضًا يحمل الأيديولوجية نفسها لكنه يختلف معهم على اسم حملة أو انتقاد محاكمة مجرم يحبونه. وبهذا حُفرت شروخ وأخاديد واسعة في صفوف كلّ من حلموا يومًا بالحرّية دون استثناء. أنا أُجبرت بالطريقة القاسية على أن أغيّر طريقة تفكيري القاصرة هذه، عندما خُطفتُ في الفوعة عام 2012، في ذلك الوقت فقط جرّبت معنى أن تضع نفسك حرفيًا في حذاء الآخر (وكان وقتها مؤيدو النظام)، وكاد “الأصدقاء” أن يقتلوني بالخطأ، وأنا أهرب بصحبة “الآخرين” على الحدود بين المعسكرين.
لم تختلف عليّ ملامح الفقراء والبؤساء، على طرفَي الحرب، وجدتُ في جانبيها المحايدين الذين لا يريدون أكثر من حياة مملّة، مع المعتدلين الوطنيين العاجزين، والمتطرّفين الغاضبين مسلوبي التفكير، وهم أصحاب الأصوات الأعلى والسلطة الأقوى. بالتأكيد، تربيتنا البعثية الأبوية مع القائد الخالد والحزب الواحد، وأوهام الانصهار في بوتقة هويّة سوريّة لم تتشكّل، لعبت دورًا في هذا كلّه. لكنّ عشر سنوات، عاش فيها كلّ منّا مئات الحيوات والخسارات، كفيلة بأن نعيد التفكير في موضعنا ضمن هذه المعسكرات المُسوّرة، وفكّ البيعة عن أربابها، لنتحدّى التنميط والتصنيف، ونسأل الآخر باهتمام: من أنت، وماذا تريد؟ بدلًا من وصم الآخر واغتيال شخصيته، لأنّه لا يتوافق مع قوالب ومقاسات “جماعتي” الدقيقة. حان الوقت لنكتب آراءنا المختلفة بلا خوف من حملات تحطيم مُشخصنة. فالثورة، كما كتب رائد الفارس على إحدى لافتات كفر نبل، “ليست ضدّ النظام فقط، وإنّما ضدّ اغتصاب العقول والاستبداد الفكري بكلّ أشكاله”.
المادة منشورة ضمن ملف مركز حرمون أسئلة الثورة السوريّة الملحّة في ذكراها العاشرة.. رؤى سياسيّة وشهادات حيّة