على نافذتي انتظرته حتى بدأ البرد يتشرب لوني، كنت شاردة وحواسي الخمسة على أهبة الاستعداد لسماع صوت عربته التي يجرها حصان بني رشيق تشق الأفق لتصل إلي، لكن صوت أمي سبقه..” ادخلي وأغلقي الشباك..كفي عن الانتظار يا مجنونة..لن يأتي هذا العام!”..
بحركات ذاهلة أغلقت الشباك وجلست على سريري، أيعقل ألا يأتي هذا العام؟..أيعقل أن ذنوبي الكثيرة جعلته يحذف اسمي من قائمة الأسماء الطويلة التي سيزورها هذا الشتاء؟ لكنه لم يقطعنا أبدا منذ 24 سنة، وفي هذا الموعد يمر من حارتنا ويقف تحت شباكي كالفارس ينتظر أميرته بثيابه السوداء الجلدية البراقة وحصانه المثقل بالزينة الملونة والأجراس، وينادي بصوته الأجش الخشن …مازوووت مازوووت…
نعم بابا نويل لن يأتي هذا العام، فهو يوزّع الهدايا على العالم وبالتالي “هو غني”، ولا يستحق الدعم الحكومي، ولن يحصل على المازوت، فكيف سيلّبي سيل الأماني الطالبة للدفء هذا العام؟…
أما فارسي المقدام فقد تكاثرت على مهاجتمه الأزمة العالمية مع نفاذ البترول السوري والفساد والمحسوبيات والتهريب، فلم يستطع التصدي لها جمعيا، وخانه حصانه البني ذو الشعر الأشعث والعيون الحزينة وعاد إلى الطاحون ليدور حول نفسه مرات ومرات لا تنتهي، ويأمن على رزق وشعير لا ينقطع ولا تؤثر فيه الأزمة المالية ولا الميزان الإقتصادي العالمي.
بقي الفارس المتشح بالسواد اللماع وحيدا مع عربته والزينة ومشاجرات الرجال الذين حمل كل منهم قنينة كولا بالحجم العائلي، والمرزوق منهم غالونا أو تنكة، ليملأها بآخر حمولة سيستطيع فارسي تعبئتها..”أنا جيت قبلك”..”لو ماكنت أعمى كنت شفت إنو صرلي ساعة ناطر هون”…”يا جماعة ولادي رح يموتوا من البرد بس هالليتر وربع وبدي امشي مرقوني”…”إي شو نحنا وأهلنا دفيانين يعني وجايين لهون نعمل عرض أزياء”…”بعدّ توتك من هون “..” توووت فيك يا توووت”…
انتهى فارسي الحزين من ملء القناني والعلب، فجمع بضع خشبات زرعها مكان حنفية المازوت للاستفادة من القطرات التي سقطت عند الانتهاء من تعبئة القناني ذات الرأس الدقيق، لم يحلم عندها بجدته تأخذه إلى الدفء والعالم الجميل الذي لا يحتاج فيه إلى أعواد كبريت ومازوت، وإنما حلم ببضع سنوات إلى الوراء، حيث الأستاذ والخضري و الموظف الحكومي الصغير و بائع الحلويات يملؤون خزاناتهم بآلاف الليترات، ويقيسون المازوت بالبراميل وليس بالكيلة وقناني الكازوز.
وفجأة توقف عن التفكير بالآخرين وضرب يده على جبينه، “الله يرحمك يا أبي ماكنت عرفان إنو قطعة الأرض البور اللي ورتتني ياها رح تحرمني من الدعم”، ومع ضحكة موجعة خرجت كلماته ” بعد ماكنت سكافي، مفاجآت الحكومة، خلّتني حافي”…
هذا العام سيكون بابا نويل هيكلا إداريا كاملا يتألف من لجنة مركزية تتفرع عنها 526 لجنة في دمشق و 316 لجنة في حلب، تكفي رواتبهم لتوزيع الدعم على كل السوريين.
ولن يقدم سانتا كلوز هبة الدفء لأصحاب النفوس الطيبة والسجل الخيّر، وإنما لمن “يستحق الدعم” و “المدعوم” ، وحاملي شهادة الفقر المكتوب على الجبين والذي تقرأه العين ، بشروط تبدأ بالرقم 1 وتنتهي بنهاية الشتاء، وحوادث الاختناق بالغاز، وفواتير الكهرباء العالية التي توصينا وزارة الكهرباء عليها، بلافتات كبيرة تتوسط الشوارع ، ناصحة بألا نستخدم المدافئ الكهربائية لئلا تقفز هي بفواتيرها إلى أحلامنا الدافئة، وطبعا ليس لوزارة الكهرباء علاقة باقتراح حل بديل، أم تريدون أن تتعدى على اختصاص غيرها؟؟
وكم قاتلُ هو فضولي، لأعرف بكم قنينة كولا ملأ السيد وزير الكهرباء خزان المازوت الخاص بمنزله؟؟
وكيف نسيت الخطة الخمسية ووزارة المالية والمصرف المركزي ومكتب الإحصاء وهيئة تخطيط الدولة أن تضيف للشروط “ولا يحصل على الدعم أبو البنات لأن البنت بتجي ورزقتا معها، وبالتالي مانو بحاجة دعم، و شرط أن تكون مقاسات المدافء 23 إلى 31 سم، على ألا تستخدم المدفأة لتسخين الخبز أو شي الكستناء أو تحضير الشاي والمتة، و تلتزم كل عائلة وفق تعهد رسمي ألا تركّب أكثر من مدفأتين في البيت الواحد بما فيهم مدفأة تسخين ماء الحمّام”.
10 آلاف ليرة سورية لكل مواطن يحقق الشروط، أي 476 ليتر، والمدفأة الصغيرة يتسع خزانها “الطاسة” لـ7 ليتر، أي أن الحكومة تقدم 68 طاسة لكل عائلة فقيرة، وإذا قسمنا الطاسات على أشهر الشتاء، من كانون الأول وحتى آذار بأحسن الأحوال، يتبين أن لكل عائلة مهما كان تعدادها نصف طاسة كل يوم، أما إذا بدأ الشتاء بتشرين أو انتهى بأيار فما إلك إلا الحطب والرقص.
والشجر في بلدي معوّد على الصدمات، وبالتأكيد سيكون سعيدا أن يستغل هذه المرة لتدفئة طالب صف أول يجلس على مقعده متكتفّا، ليس خوفا من الأستاذ هذه المرة، وإنما لتدفئة يديه الزرقاوين، يفركهما ببعضهما ليحظى بنعمة دفء الحركة الفيزيائية الاحتكاكية، منتظرا “الفرصة-الباحة” ليركض ويركض ليسبق البرد.. لينتصر عليه.. ويعرق، قبل أن يسلمه نفسه في الحصة الدراسية الجديدة.
وأم الطفل المشحرة اللي مالها جوز تبيع الصوبة وتشتري جوز، لأن القسائم تعطي فقط لأرباب الأسر، أما المطلاقات والأرامل اللواتي حرمهن الله من نعمة الدفء الزوجي، فالتعامل معهن على أساس قاعدة “إذا شفت الأعمى طبو مانك أكرم من ربو”..والنص يقول صراحة ” المرأة المطلقة لاتستحق ان تحصل على بطاقة عائلية”….
اضحك.. ابكي..انفعل.. تدفا
خرجت المحروقات من التحليلات الإقتصادية والأخبار العاجلة لتدخل مجال الرقص من البرد..فما إن ارتفعت أسعار المازوت وبدأ الحديث عن الدعم حتى بدأت الإيميلات والمواقع الإلكترونية بتأليف النكات وأعداد برامج للتقفيل كـ” من سيربح المازوت”، والذي يعطيك ليترا عند كل إجابة صحيحة.
وفيه تخسر إذا كنت متزوجا لأن مرتك بتدفيك، وإذا كان في بيتك أكثر من غرفة، لأنك مبحبح اقتصاديا، وإذا كنت تأكل أكثر من وجبة في اليوم، لأن الدسم سعيطك الطاقة والحرارة فلا عازة للمازوت، وحتى إذا كنت تملك مدفأة..لأن هذا يعني بأنك صاحب أملاك!!.
وفيما يتعلق بإجراءات الحصول على الدعم تقول إحدى التقفيلات “على كل رب عائلة تتوفر في عائلته الشروط ان يتوجه الى اقرب مركز توزيع مصطحبا معه دفتر العائلة، والهوية ودفتر الجيش، وبيان وضع من وظيفته، وعدم ممانعة من شعبة التجنيد، وموافقة مؤسسة اكثار البذار، وهيئة مكافحة التصحر، وسند اقامة من المختار، ووثيقة انهاء المرحلة الابتدائية مع شهادة مشاركته في معسكر صف العاشر، وفاتورة ماء وكهرباء وهاتف عن اخر دورة مع 15 طابع مالي، ووقية طوابع عمل شعبي، وبيان راي من مؤسسة السينما ومن مديرية المسارح والموسيقا، وشهادة حسن سلوك كمان من عند المختار وتقرير طبي من مديرية الصحة، وشهادة خبرة من الاتحاد الرياضي العام ( لانو الشغلة فيها ركض كتير )”.
زينة ارحيم