“ما بتقدري تعمليلنا شي يا عمو، بدنا سلامتك” قللي ابو جورج لما التقينا على باب دير اللاتين في الغسانية بريف إدلب الشهر الماضي..
بيننا وقف باب حديدي بأعمدة متقاطعة، كان العم ابو جورج بداية متوجساً مني، ولا ألومه؟…مين هالصبية اللي اتجرأت توصل لهون على بعد خطوات عن مقر كتائب “دولة العراق والشام الإسلامية” المنشقة عن جبهة النصرة والمعروفة بين النشطاء أنها الأكثر تطرفاً واغلب عناصرها من المهاجرين وكلما كان السوريين أقلية في مكان كلما ازدادت صعوبة الحياة فيه..
وين ولادك يا عمو؟
“نزحوا بين حلب وادلب وبراة البلد”
وليش ما رحتوا معهم؟
“انا يا عمو فلاح ومامعي شي يكفي افتح بيت بحلب، هون بيتي اللي اشقيت طول عمري لبنيتو، وحياتنا هون وما بقي بعمرنا غير هالكم سنة وبدنا نكملهم هون”.
بدأ ابو جورج يطمئن لي، اقترب من الباب الحديدي ونظر في عيني مباشرة من بين مربعاته “يا عمو شو جابك لهون؟”
جاي شوفكم بس واسالكم شو لازملكم وإذا بقدر بساعدكم بشي..
اقترب مني أكثر وهمس.. بدنا الله يفرجها بدنا نخلص من هالحرامية اللي عميسرقونا بوضح النهار…
صمت.. تلفت حوله ثم اكمل..”لنشوف شو رح يصير بجنيف..”
شردت عنه لدقائق أفكر ما جنيف؟ وما علاقتها بالدير والمدنيين الصامدين في أرضهم أمام القصف والتعصب والأجانب والعسكر..
وعندما فجأة تذكرت قصة المؤتمر وطنّت بأذني نشرة الأخبار حبست ضحكتي مرغمةً وبصعوبة..
صمتت..ولم أشاركه معرفتي بمن يأمل أن يأتوه بحل وسلام.. لم أخبره بما هم مشغولون ولا على ماذا يختلفون ولا إلى أي كائنات جشعة ومستهترة تحولوا..
لن اقتل آخر أمل يعيش عليه العم ابو جورج.. انا التي قطعت كل تلك المسافات لأقول له.. لستم وحيدين..
في ذاكرتي من ذلك المشهد عجز مقيت وخوف من ذاك الغريب الذي التصق بنا وقال لصديقي انه يشك بي وسيأخذني ليروا “شو بيطلع مني”..
وتطغى على تلك الذاكرة..النظرات..لم ادخل في حديث للعيون منذ سنوات مراهقتي ولم أكن أتوقع أن أخوض هذه التجربة مرة أخرى في هذا المكان ومع رجل غريب بعمر جدي.. كانت وسيلتنا الوحيدة للتواصل دون أن يسمعنا ذلك الغريب الشرير خلفي.
عينا العم ابو جورج لوزيتان دامعتان كعيني جدي الجميلتين..استجمعت كل طاقتي لأبث له دعمي وتعاطفي ومناصرتي لهم..ويبدو أن بعض تلك الرسائل وصلت قلبه حتى ارتاح لي..
عمو بدك توصل شي لاولادك؟ بتحب اتصللك فيهم؟ قللي شو مابدك.
نظر إلي مطولاً ثم عاد وسألني مرة أخرى “شو اللي جابك لهون يا عمو؟” ..جيت سلم عليكم..والله بس هيك..
“كسروا الكنائس يا عمو وحرقوا بيوت الناس”
مين هنن؟
“ما منعرف، نحنا هون شوفة عينك”..
كنت أنوي أن امضي تلك الليلة في الدير، تحمس ابو جورج بعد حديثنا القصير وسأل أبونا عن ذلك وعاد الي..
“لا مانع لدينا لكن غرف الراهبات ممتلئة، هناك منزل تعيش فيه أم طوني”.. قاطعته هنا..
خلص عمو ما تاكل هم ما بدي وجعلكم راسكم او اتسبب بمشاكل.. اتطمنت عليكم وشفتكم بخير وكل ما يصحلي مر من هون رح اتطمن عليكم..
“الله يحميكي يا عمو.. ما بقدر بلح عليكي تضلي عنا لأنو مافينا نحميكي.. شوفة عينك يا عمو”..
هنا ودّعته وقد زاد إلحاح صديقي لنخرج من الغسانية لنتخلص من الغريب والخطر..
وما إن صعدنا بالسيارة حتى خرج أبو جورج من الباب الثاني للدير ليلاقينا وكانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها دون قضبان..
توقفنا واقترب منا مستنداً على عكازه، وضع يده على شباكي واقترب مني.. “بدي أسالك عمو.. قلتيلي انتي اسمك زينة مو؟”
أي عمو اسمي زينة
“انتي مرت عابد فهد”!!!
لم أخفي ضحكتي هذه المرة.. لا يا عمو انا اسمي زينة ارحيم مو يازجي وأنا من إدلب..
وضعت يدي على يده ومازالت عيناه معلقة علي يحاول ان يفهم دوافعي بمفاجأة لم تغب عنه رغم كل شرحي..
الله يحميكم يا عمو.. بشوفكم على خير..
يا جنيف وأهله هل تعرفون ان أبا جورج مازل بانتظاركم؟
وبينما تحيكون المكائد وتتشاجرون هُجر الدير وهربت راهباته ولا اعلم ما حل بأبي جورج بعد ان قَتل أولئك المجهولون الأب فرانسوا مراد.. سلام لروحك أبونا..سلام لإصرارك على البقاء في بلدك حتى الشهادة.. سلام لإيمانك بسوريا وصمودك فيها..سأزور قبرك في زيارتي القادمة لليعقوبية لاستمد منك بعض السلام والشجاعة.. وسأطلب من أمي أن تذكرك في صلواتها..وفي كل دير سأزوره سأشعل لروحك شمعة..فأنا مازلت عاجزة عن فعل المزيد…
عاشت الحرية والمدافعين عنها من مدنيين وعسكريين ويسقط القتلة والمجرمون.. كل المجرمين..
صحفية سوريّة ونسوية٫ أعمل كمستشارة تواصل ومدربة مع عدّة مؤسسات دولية، عملت قبلها مع معهد صحافة السلم والحرب IWPR والبي بي سي وشبكات من أجل التغيير وغيرها. درست الإعلام في جامعة دمشق والترجمة في جامعة التعليم المفتوح بدمشق أيضاً. بدأت عملي الصحفي مع موقع “سيريانيوز” عام ٢٠٠٤ قبل أن انتقل للعمل مع قناة المشرق “الأورينت” منذ تأسيس مكتبهم في دمشق إلى أن أغلقته المخابرات السورية عام ٢٠٠٨. بدأت عندها بالعمل مع جريدة الحياة. عام ٢٠١٠ حصلت على منحة من وزارة الخارجية البريطانية لدراسة الماجستير في المملكة المتحدة (تشيفنيغ)٫ ودرست الماجستير في مجال الإعلام الدولي (المرئي والمسموع) من جامعة سيتي في لندن، عملت بعدها في تلفزيون بي بي سي العربي لعام٫ قبل أن أعود لسوريا لأدرب أكثر من مئة ناشط وناشطة إعلامية.
Award winning Syrian journalist and feminist, working as a communications expert and trainer with many international NGOs, before, Zaina worked with the Institute for War and Peace Reporting, BBC, Networks for Change and others. Has trained more than 100 media activists on journalism basics and made 2 series of short films about Syrian women, and participated in four books about journalism and women. Zaina was named among the 100 Most Powerful Arab Women 2016 by Arabian Business and Unsung heroes of 2016 by Reuters Thomson. ٍReceived Index on Censorship, Freedom of Expression award in 2016, Press Freedom Prize by Reporters Without Borders and Peter Mackler Award for Ethical and Courageous Journalism in 2015 beside Mustafa Al Husaine award for the best article written by a young journalist.
المقالة السابقة
المقالة التالية