في سوريا الأسد٫ سوريا تنظيم “داعش”٫ سوريا المعارضة المسلحة والقاعدة وسوريا الكردية٫ أن تكون صحفياً سورياً يعني أن تواجه قائمة طويلة من العقوبات يفرضها عليك مستّبدون مختلفون “اعتقال٫ خطف٫ قتل تحت التعذيب٫ ذبح بإصدار أو دونه٫ إعدام بالرصاص٫ محاكمات شرعية٫ نفي٫ منع..”.
“الخوف يؤرق حياتك ويعّطل تفاصيلها٫ فأي معلومة تتسرب عنك قد تضعك تحت الأرض لسنوات٫ إضافة للحواجز التي تحتاج لتخطيط استراتيجي لعبورها٫فأحياناً أضيّع يوماً كاملا لأقابل مصدراً واحداً” تقول الصحافية رافية سلامة التي تكتب من دمشق.
يؤرق رافية أيضاً استخدام اسم مستعار للنشر وسطوة الاعتبارات الأمنية على شخصيتها الصحفية وإنتاجها٫ تقول سلامة “أحياناً أتساءل٫ لم أكتب وأنا لا أجرؤ حتى على مشاركة انتاجي على صفحتي الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لا أحد من أصدقائي يعرف ما أفعل ولا أسمع تقديراً ولا نقداً٫ أشعر كمن يصرخ في وادي سحيق دون أن يعرف إن كان صوته يُسمع أم لا” تشرح بغصّة.
وتضيف سلامة “ بكل رومانسية الأصعب من ذلك كله بعملي الصحفي هو اضطراري لحذف رسائل الآخرين وذاكرتي معهم لئلا أعرض سلامتهم للخطر في حال اعتقالي٫ يحولني هذا لكائن دون ذاكرة”.
أما بالنسبة لماريا أبيض والتي تعمل كمصورة أفلام في دمشق أيضاً فلم تعد رقابة النظام المشدّدة هي أكبر مشاكل عملها “الأصعب الآن هو إقناع الناس بفعالية ما تكتبيه أو تصوريه٫ فهم يرون ألا داعي لأية مخاطرة لنشر موضوع لن يحدث أي تأثير٫ وإن قبلوا فلا يحدثّك المصرد إلا شفهيا ودون أسماء حقيقة طبعاً مع تغيير المعلومات الديموغرافية والعمر إلخ..” تقول أبيض.
لا يختلف الحال كثيراً في مناطق المعارضة حيث تعمل هادية المنصور٫ تقول هادية “عدم ثقة الناس وخوفهم رغم كوننا في مناطق خارجة عن سيطرة النظام ماتزال التحدّي الأكبر الذي أواجهه بعملي٫ أمضى أغلب وقتي في إقناعهم بالحديث وأيضاً أغلب أسماء مصادري مستعارة كما اسمي الذي أنشر به”.
تضيف لذلك مها الأحمد٫ والتي تعمل في ريف ادلب “انعدام الأمان والفوضى٫ وصعوبة الحركة والتنقل بسبب القصف المتواصل ووجود بعض الجهات المتطرفة التي تعادي الصحفيين”.
يتكثّف الخوف من هذه الجهات عند الصحفيات اللواتي تحاولن العمل في مناطق سيطرة داعش٫ تقول هبة التي عملت في الرقة قبل هروبها منها قبل عامين “أكبر تحديات العمل هو الخطر الدائم المحدق بك وتوقع خطفك وذبحك بأي لحظة ولأتفه الأسباب”.
وتشترك هذه المناطق المختلفة بسلطاتها وتحديات العمل فيها بالعقبات اللوجستية التي تعرقل العمل بشكل كبير كالكهرباء والماء والتدفئة والمواصلات إضافة للمواصلات والحواجز العسكرية.
أما في المناطق ذات الأغلبية الكردية فتواجه روناك محمد نوعاً آخر من المصاعب تلخصها بصعوبة عدم الانحياز لطرف من الأطراف السياسية التي تحكم المنطقة٫ “فالوقوف على الحياد يحرمك من فرص العمل على مواضيع كثيرة كالتغطيات الاعلامية للمعارك, والتغطيات للمواضيع السياسية الحساسة٫ فعليك أن تكوني موالية لجهة معينة لتتمكني من الحصول على الفرص الهامة ويسمح لك بالعمل بحرية”.
للنساء حصّة إضافية من التعب
“الصحافة كأغلب المهن المُتعبة والمثيرة للجدل الأخرى للرجال دون النساء في المجتمع الذي أعيش فيه٫ فعاداتنا وتقاليدنا تقيدني بعدد محدد من الوظائف على رأسها التدريس ورعاية الأطفال”٫ تقول هادية المنصور التي تحوّلت قبل ثلاثة أعوام من معّلمة إلى صحفية بعد تدريب حضرته في قريتها عن الكتابة الصحفية نظمه معهد صحافة الحرب والسلام.
هادية تكتب منذئذ باسمها المستعار هذا في العديد من المواقع الإلكترونية ومازالت تعيش في ريف إدلب والواقع تحت سيطرة الفصائل المعارضة المعتدلة منها والمتشددة.
بالإضافة للمتاعب العامة التي تواجه الصحفيين تواجه هادية مصاعب إضافية كونها امرأة وتعمل في مناطق المعارضة منها صعوبة التحرك دون مرافقة “ولي أمر” والتنقل بين المناطق المختلفة إضافة إلى إجراء مقابلات بشكل مباشر مع الرجال٫ حيث يعتبر الإختلاط في مجتمعها المحافظ “شبهة” بحسب تعبيرها.
أما بالنسبة لماريا أبيض في دمشق فجنسها على عكس هادية يعطيها المزيد من المساحة للوصول إلى المصادر٫ تقول ماريا “الكثير من المصادر يعطيني مقابلة لأنه يرغب بأي وجود نسائي ولو كان رسمي جداً٫ وآخرون يرفضون مقابلتي أيضاً لأنني امرأة٫ قلّة فقط هم من يقررون التعامل معي على أساس العمل الذي أقوم دون أن يؤثر جنسي على قرارهم٫ فأغلبهم تتدخل الاعتبارات الجندرية في قرارهم هذا”.
وللصحفية تحديداً دون الزملاء الذكور النصيب الأكبر من التدخلات في لباسها وتحركاتها ورقابة مجتمعية قاسية تطبّق عليها بحجج متعددة منها “الخوف والحرص” ومنها “العيب والحرام”.
“قبل السيطرة الكاملة لداعش ع الرقة كنت أتعرض لمضايقات بما يخص تواجدي بالشارع، لباسي، عدم وضعي للحجاب ومساءلتي على المرافق الذكر الذي يجب أن يكون مُحرماً قريبا وبعد سيطرتهم أصبح اغلب عملي افتراضياً خوفاً من الخروج من المنزل والتعرّض للخطف” تروي هبة.
وتشرح رافية التي ماتزال قادرة على التحرك بين مناطق التظام والمعارضة “ لأنني صحفية امرأة يترتّب علي ارتداء الحجاب في مناطق المعارضة٫ رغم ذلك يرفض بعضهم الحديث معي لاعتبارات جندرية٫ وإن قبل بعضهم الآخر يرفض النظر إلي أثناء المقابلة بسبب تعاليمه المُحافظة٫ أشعر بالامتهان عندما ينظر من يحدثني إلى الأرض وأفقد قدرتي على التواصل معه وأحبط من جنسي”..
أما في مناطق النظام فتختلف تحديات رافية بشكل كبير “أمر على الحواجز بشكل أسهل بسبب جنسي٫ وأستطيع تمرير بع المعدات بحقيبتي اليديوية عكس زملائي الشبان٫ لكن محاولات التحرش بي والتقرّب إلي وبشكل خاص من المسلحين كبيرة جداً٫ وفي كثير من الأحيان لا أعرف إن كان العسكري يتحرش فيّ أم يراقبني لأسباب أمنية مما يزيد من تشوّشي وخوفي” تقول رافية وتضيف ساخرة “وأنجزي إبداعاً صحفياً في هذه الأجواء السعيدة إن استطعتِ عزيزتي الصحفية!”
حتى في المناطق الكردية التي يُرّوج بأنها الأفضل للنساء والأكثر عدالة في التعامل معهّن٫ تترّتب عقبات إضافية على عمل الصحفية المرأة لا يعاني منها الصحفيون الشباب.
تشرح روناك “الادارة الذاتية تروج لنفسها على ان ثورتهم هي ثورة المرأة فهم يؤمنون بالشراكة للمرأة لذلك بكل دوائرهم الرسمية هناك الرئاسة المشتركة وفي كل حملاتهم العسكرية يوجد نساء٫لكن كوني صحفية امرأة ألزمني بمهام صحفية دون غيرها٫ ففرض علي تغطية المواضيع الاجتماعية وقضايا المرأة بينما الصحفيون يذهبون للتغطيات الخارجية والمعارك الميدانية”.
سباق الحواجز والعقبات
وبرغم الطبقات الإضافية من الصعوبات التي تفرض على الصحفيات السوريّات تستمرّ العديدات منهنّ بالعمل مستعينات بالدعم العائلي والتفهم كحال هادية التي أصبحت مصدر الدخل الاقتصادي في العائلة أو إرسال الزوج للحصول على مقابلات مع شخصيات ترفض حضورها النسائي كما مها.
فينا تفرّغ رافية إحباطها بمساعة المحلل النفسي ودعم الأصدقاء يساعدها على الاستمرار أما بالنسبة للصعوبات الجندرية فتعمل رافية على تجاوزها “بالتخفي لخفض درجة الإنتباه إليها لأدنى حد” تشرح ذلك بقولها “ألبس ملابس قديمة تدّل على الإهمال ودائما أتخفّى بين الجموع٫ أتكلم بصوت منخفض وأستعمل طيف واسع من الخيارات أثناء التعامل مع مصادري من اللطف والود للتكّبر لوضع حد للعسكر ومنعهم من التمادي على الحواجز خوفاً من التحرش”.
لم تتجاوز ماريا كل الصعوبات لكنها مستمرّة “لأن هذا عملي وقد جُبلت على مقاسه برغم صعوبته وعنفه” كما تؤكد٫ وتضيف أبيض “الصحافة تغير طبيعتك ولا تستطيعين التراجع عنها ببساطة٫ مقارنةً بها كل المهن النظيفة تبدو بلا روح ولن أضيّع عمري في عمل بلا روح”.
معنى الصحافة وهدفها تغيّر بالنسبة لماريا من “إظهار الحقيقة ونصرة المظلوم لصراع بقاء”٫ تقول “كل ما أريده أن يبقى هاهنا صحفي يصرخ بصوت مسموع٫ سواء وصل صوته أم لم يصل اليوم أو بعد سنوات”.
وتضيف روناك بعداً آخر لتعريف ماريا الجديد فترى الصحافة والصحفيات كأدوات تغيير فاعلة نحو سوريا جديدة وهو ما يبقيها على قيد العمل.
أما رافية فتستمر “لأن الاستسلام رفاهية غير متاحة” بحسب توصيفها٫ تأخذ استراحات عند التعب وتعود قوية للعمل من جديد٫
وسر قوتها الدافعة هو اهتمامها بنفسها وبمن حولها “والأوقات الحلوة التي أعيشها واستمتاعي بما أفعل وبما أؤمن به”.
تستدرك رافية “وأنا أكتب لك عن الفرح أسمع صوت الطائرة تقصف حي القابون الآن٫ أنا محظوظة لقدرتي على التفاؤل والعمل وسأستمر وهذا كل ما أعرفه”.
لا تستهلك المقاومة متعددة الأوجه والمُسبتدين من طاقة الصحفيات السوريات وجهّدهن فقط٫ فالخسارات ثمن متوّقع على طول طريقّهن.
“خسرت الأمان٫ نادراً ما أشعر به٫ القلق والرهاب والاكتئاب اللي هي العناوين العريضة لحياتي” تقول رافية٫ وتضيف هادية “أنا خسرت اسمي الحقيقي خوفاً على أقربائي الذين يذهبون لمناطق النظام وخوفاً على نفسي من المواد التي أتطرق فيها لتجاوزات الفصائل المسلحة”.
تسبب عملها الصحفي لروناك بخسارة العديد من الأصدقاء الذين اعترضوا على ما تكتب أو على طبيعة عملها٫ أما هبة فخسرت وجودها في مدينتها وحياتها السابقة واضطّرت للهجرة مع عائلتها.
لكن الصحفيات وجدن مساحة من الربح في مسابقة الخسارات تلخصه رافيه بقولها “ربحت حياة لم أتخيل أنها بهذه الروعة من حيث الأحاسيس والتجارب٫ تجعلك تقولين في نفسك٫ أنا حيّة وأعيش العديد من القصص التي أكتبها٫ محاولة ترك أثر إيجابي وخلق نوع من التغيير يعطي الأمل وهو الدافع الأقوى للاستمرار “.
*كل الأسماء الواردة في هذه المادة مستعارة٫ فالتهديد الأمني هو العنصر المشترك الوحيد بين الصحفيات العاملات بين المناطق السورية الخمس المحكمومة من قبل مسلحين مختلفين.
المادة منشورة في العدد الخامس من مجلة الصحافة في ربيع عام ٢٠١٧ بعنوان “أسماء مستعارة لحماية الصحفيات السوريات”.