في خريف ٢٠٠٧ جمعني بها مكتب صغير يطّل على حقول الصبّار في الطرف القديم من المزّة٫ كانت تتقّصد الجلوس وحيدة٫ نحيلة بهامة ممشوقة وغطاء رأس منقّط مثني بشكل مستطيل٫ أستحضرها أمامي الآن تماماً٫ كنزة زرقاء سماوية بياقة عالية وبنطال جينز.
كنا معاً نشارك في تدريب “ملتيميديا” ينظمه “معهد صحافة السلم والحرب” في دمشق٫ لم تكن تعرفني٫ لكني أعرف اسمها٫ قرأته مصادفة عندما ظهر لي موقع معارضٌ للنظام وأنا أبحث عن معلومات لتقرير أعدّه٫ حيث منحني عملي في موقع الكتروني مزوّدُ الإنترنت الخاص به خارج سوريا حظوة الدخول للمواقع المحجوبة٫ بعدها أصبحتُ أبحث عن رزان بين الصفحات المحجوبة عامدةً متعمدّة.
لا أنكر أن صورتها تتحدث على الهاتف بضحكة بريئة قرب تحقيق صحفي طويل عن خطط عمرانية تجارية ستسرق جمال دمشق لم تتطابق وتلك الصبية النحيلة التي اتخذّت من زاوية منعزلة مكاناً وانزوت فيه طوال فترة التدريب٫ كانت لامعة بأسئلتها٫ مهتمّة بالتفاصيل ومتابعة باهتمام٫ لكنّها تتجنب حتى السلام على بقيتنا.
قررت مع صديقي عامر أن نقتحم عليها عزلتها٫ سحبنا كرسيين واقتربنا منها غير عابئين بتجاهلها الكامل لنا٫ وجلسنا على طاولتها.
“مرحبا”٫ وجهت نظرها أخيراً نحونا..”أهلا وسهلاً” ردّت وهي تنظر إلينا منتظرة تبريراً لجلوسنا معها.
افتتحنا الحديث عن موضوع التدريب٫ كانت حريصة بعدد كلماتها كأنها تجري مكالمة دولية من خط أرضي٫ تنصت وتبتسم متهرّبة من فتح باب آخر للحوار٫ قاومتُ اتهامها بالغرور وأخرجت الفكرة من رأسي عنوةً منه مستحضرةً كل تلك المواد التي قرأتها في الموقع المعارض مذيلةً باسمها٫ لا يمكن لشخص بهذه الشجاعة والإنسانية إلا أن يكون كاملاً.
في اليوم الثاني على ذات الطاولة والكرسي جلست مرة أخرى مع كمبيوترها المحمول الأسود تحاوره كصديق وتتعامل معه بتلصص سارق٫ ومرة أخرى قررنا التسلل فوق حصون خصوصيتها.
عرفت بعدها أن رزان ” الناشطة بحقوق الإنسان” تحمل مع اسمها تهمتان تكفي كل منهما أن ترمي من يرمي عليها السلام في غياهب الغياب لقرون وتترك على جسده آثار “المرحبا” محولة إياه لمحكمة الإرهاب بتهمة وهن نفسية أمة ضالّة تخشى قلب رزان الجميل وطاقتها المُبهرة.
أعدّت رزان وقتها تقريراً مصوراً عن عمر أميرلاي وكان الأكثر تميّزاً بين تقاريرنا٫ راقبتها لأسبوع وعرفت أنها تتقرب ممن يعرفها وهو مستعّد لتحمّل النتائج وتخاف على الجاهلين من نفسها٫ ومن وقوعهم بورطة الحديث معها دون معرفة العواقب.
تأكدتُ من هذا عندما بدأت تتواصل معي عبر الفييس بوك بعد هذا اللقاء بعام٫ عندها صدر مشروع قانون أحوال شخصية يفرض المزيد من القيود على النساء ويطبق عليهم شرائع أكثر جوراً حتى من سابقه.
بدأت بذلك العالم أنشط في الدفاع عن حقوق المرأة دون الاقتراب من محرّمات حقوق الإنسان وأنشأت على الفييس بوك مجموعة أطلقت عليها اسم “بدنا نمشي لقدام مو نرجع لورا”٫ لم يكن للفييس بوك وقتها هذه الشعبية ورغم ذلك انضم للمجموعة المفتوحة أكثر من اثني عشر ألف مشترك.
كنت أرسل لهم يومياً تقريباً رسائل تتضمن أخباراً عن مشروع القانون وما يفعله النشطاء والناشطات لمنعه من الوصول لمراكز التنقيذ٫ وكنت دائماً أبدأ رسائلي باعتذار عن “اقتحام الرسائل الخاصة وارسال رسائل شخصية” كما كانت إعدادات الفييس بوك تفرض علينا عندئذ٫ وما إن أرسلها حتى يصلني من رزان جواب سريعً لا يمّل تكرار نفسه “لا تعتذري زينة٫ تسعدنا رسائلك٫ رجاء استمري وأنا جاهزة لأية مساعدة”.
بعدها بدأت رزان تراسلني لأنشر مقالات بمواقع مختلفة كما كانت تفعل هي نفسها تطوعا٫ وشجّعتني أكثر من مرّة لأن أستمر بالمقالات على حساب المواد الصحفية٫ كنت مذهولة من أن رزان نفسها تحبني أن أكتب ومعها!
كانت رزان متفائلة بالنشاط المدني الصغير الذي نقوم به وأصدقائي وبالتحديد كانت متحمسّة لجيل جديد غير مؤدلج بلا ميول سياسية يسعَ ويعمل للتغيير المجتمعي. علاقتنا بقيت بهذه الصيغة إلى أن بدأت الثورة.
بينما كان الجميع يفكر مرّتين قبل أن يضع ثقته المطلقة بأخ أو صديق٫ لم أشك لمرّتين أنها ستكون مع الحرية٫ وجاهزة للمساعدة كما عهدتها٫ وفعلاً بقيت رزان الثقة المطلقة التي لم تخذلني٫ بدأت أنشر عنها الأخبار وأتواصل معها ثم أوصلها مع القنوات كناشطة بحقوق الإنسان تنقل أخبار دمشق ودرعا.
عندما اختبأ الجميع خلف أسماء حركية وجدران وهمية كان صوت رزان بالعربية والإنكليزية يصدح على القنوات باسمها الكامل ومن العاصمة٫ وعندما ازدحمت بهم القنوات تراجعت لخلف الكاميرا إلى حيث بدأت تماماً٫ كمبيوترها وآلاف الملّفات والمحادثات والتوثيق والمشاريع التي تحتاج فريقاً كاملاً لتمشي ألا أنها برزان وحدها تركض بانتظام.
كنت معها افتراضياً كل يوم عشر٫ خمسة عشر وأحياناً عشرين ساعة٫ “مجرزة٫ أسماء٫ يا إلهي٫ تأكدتي من اسمه٫ أنا ترجمة٫ سأستسلم التحرير٫ استشهد تحت التعذيب٫ بدنا ناشط من حمص للقناة وآخر من دمشق للصحيفة..أمنتي حدا يحكي مع الراديو انكليزي؟”
إيطاليا وأكلها وشبّانها السمر كانوا يتسللّون دقائق فراغنا القليلة٫ رزان الممنوعة من السفر لا تمّل من حلم السفر إلى روما وترسم في رأسها ملامح رحلة صيفية طويلة.
-رزان كم إصبعاً لديك؟
ترسم السمايلي الأصفر الباسم٫ ثم تكتب “أنا أخطبوطة”
– أصلا أنا لا أراك إلا زرقاء لا أعرف لماذا!
“ربما لأنني أرتدي السماوي في الصور القليلة التي تُنشر لي”..
-وربما لأنك سماوية..
ابتسامة السمايلي الأصفر من جديد..
عندما اعتقل وائل حمادة زوجها٫ كنا معاً٫ صاغت الخبر بدّقة كعادتها وضعته على غرفة “الأخبار” بالسكايب وتابعت مقاطعة الأخبار والتحرير.
لم تعطِ رزان لحبيبها ورفيق دربها وقتاً أكثر من أي معتقل آخر ولا فضّلته عنهم حتى بعدد الكلمات.
على صفحتها الخاصة كانت تخفي بمزاحها الذكي رائحة جثث تدفنها في قلبها صباحاً٫ وتقارير تعذيب تكتبها بتفاصيل الوجع ليلاً مع رائحة شواء الجلد وعلى لحن تكسير العظام.
آخر ما قرأته عندها كان شكواها من أن سميرة خرّبت لها حاجباها٫ فنصحت رزان الصبايا المُحاصرات في الغوطة الشرقية ألا يسلمّن حواجبهن لملقطها! ثم..
قصفني الخبر..
غير معقول..لا يمكن..تآمرتُ على ذهني وفي بعض التفاسير الأخرى ضحكت على نفسي وكذّبت الخبر! رزان تخطف! من يبقى إذا!!!
من يخطف رزان يخطف ثورة٫ يخطف بلد..
ظهري انكشف٫ خفت٫ أنا المجنونة بإقدامي خفق قلبي رعباً٫ وأصبحت من يومها أضع “المُحرر” بين قوسين…إذا كانت رزان تُخطف٫ وتبقى مخطوفة٫ أنا أُقتل على عجل دون أية ردة فعل٫ وربما أُرجم مع كل الثائرات على مهل بساحة العُمري دون اكتراث المارّة من أصدقاء المظاهرات ورفاق الدرب.وكيف تبقى الثورة ثورة دون أن تخلع كل الأقفال بحثاً عن ذاك الأسود الذي يخفي وراءه رزان!كتب ثائر
يعرفها بقلبه على الخط الأول في جبهة صلاح الدين بحلب “رزان زيتونة…كوني بخير” بخط متعرّج يسابق رصاصة..
هذه المرة فقط..اسمعي الكلمة يا صديقتي العنيدة…وكوني بخير..
المادة منشورة في العدد خمسين من مجلة “طلعنا ع الحرية” بتاريخ ٩-١٢-٢٠١٤
ابكتني تلك الكلمات الصادقة البسيطة التي لم تحاولي ان تتصنعي بها ………
الحرية لرزان ولكل المعتقلين والمعتقلات
دمتي بخير انتي وسوريتي