لا أملك قضايا كبيرة أؤمن بها ولا أنوي التفريط بحياتي فداء لأي شيئ٫ لا أفكر بمستقبل ولا أهداف استراتيجية عندي أناضل في سبيلها ليصبح العالم أكثر عدالة أو أقل ظلماً. فأنا مجرد مدني حقير..
أعيش لآكل وأشرب وأمارس عاداتنا السرّية والعلنّية التي ورثتها عن أبي ومن قبله جدّي٫ سأبحث عن عذراء جميلة مطيعة أتزوجها وأنجب منها ولداً كلّ عام ليدوم نسلي ثم أموت٫ بكل ملل ورتابة أخطط لعيش حياتي بروتين يومي٫ سنوي٫ أعياد٫ جنازات وأفراح والكثير من الغيبة والواجبات الاجتماعية.
لا حسابات عربية ولا أجنبية لي على وسائل التواصل الاجتماعي٫ لذا لا تصدّقوا من يتحّدث باسمي٫ ليس “لأهالي المدينة المنكوبة” صوت ولا يصدرون بيانات متلفزة ولا حتى إذاعية٫ في حياتي الأخرى عندما أكون محظوظاً سأفتح فيس بوكاً وأطوّبه باسم ابني٫ “أبو عبدو شيخ الشباب”٫ وربما أتباهى فيه باسم العائلة “ابن اليوسف”٫ وسأخصصه لأحدث الطرائف والأخبار الغريبة والأحاديث والآيات “اضغط الرقم واحد وسيختفي التمساح٫ أقسم بالله لست مشعوذ”٫ “بسبب “التين والزيتون” في القرآن فريق بحث ياباني يعلن إسلامه”٫ “حيوان نصفه ماعز ونصفه حصان٫ والله العظيم سأنشر البوست وأكتب سبحان الله! لقد حلفت! لا تكسر يمينك!”.
“قال الأوزاعي رحمه الله قلتُ لرجل: أُريد بيتًا بجوار أُناس لا يغتابون، ولا يحسدون، ولا يبغضون ؟ فأخذني الرجل إلى المقبرة وقال لي : هنا”.
أنا المدني الحقير٫ كنت موظفاً حكومياً أعيش على راتبي وتترأس همومي التبرعات الإجبارية التي تقتطعها الحكومة منه شهرياً٫ ماذا سنتغدى غداً٫ مشتريات بداية المدراس٫ ووقود مدفأة الشتاء.
مازلت مدنياً حقيراً لكني خسرت وظفتي ومصدر رزقي الوحيد٫ أبيع الكلسات والكلاسين على بسطّة في شارع شعبي٫ وخلفي بناء مهدّم نال منه برميل ونجوت لأتعذب.
ربما بقي دخلي كما هو لكن قيمته انخفضت للخمس٫ حتى قبل الحصار كيلو الأرز الذي كنت أشتريه بثلاثين أصبح بخمس مئة ليرة! ولم يتضخّم دخلي معه! كيف أعيش وعائلتي منه؟ عندما أعرف سأخبركم؟ تقول أمي هي البركة ورزق الأولاد الذي جاء معهم٫ وتخرسني وتغصب علي عندما أقول لها: إن الله لا يرزق المدنين الحقيرين!
ما تغيّر في السنوات الماضية هو يومياتي وقاموسي والسلطات التي أدين لها بسيادتي:
أطلقت لحيتي٫ وضعت قرآنا كبيراً على البسطة وعلّقت عليها مسبحة سوداء٫ شوّهت بالشنيار الغامق وجه “سبيلكان الضاحكة” الذي كان ملصقاً على البسطة ومحيت ملامحها بالكامل.
استبدلت سيدي بـ “شيخي”٫ و “صهيوني عميل” بـ “مجوسي مرتد”٫ و “مقاوم” بـ “مجاهد”٫ و “سوريا الأسد” بـ “أرض الشام”٫ و “القائد الفذ” بـ “الأمير التقي”٫ لكن “البيعة” للأسياد المجاهدين و مجاهدينا الأسياد بقيت وإن أختلفت تنصنيفاتها٫ فـ “منحبك” تحوّلت لـ “أحبك في الله”٫ و “يا خاي/خيّو” أصبحت “أخي” تيمناً بالأخوة المهاجرين الفصيحين عربياً.
جيراني تحوّلوا من أبو صالح٫ وأبو رائد٫ وأبو هادي٫ وأبو حسام٫ وأبو أنس إلى أبو القعقاع٫ وأبو مغيرة٫ وأبو البرائين٫ وأبو الأنفال…
وعبد المنتقم أصبح ناشطاً سلمياً يعمل مع منظمة لحماية حقوق الحريمات٫ لكنه منع زوجته وهي في الخامسة عشر من عمرها من إكمال الصف التاسع وكلّما شدّ علينا الحصار كلما ازدادت قتامة الألوان على وجهها الأبيض.
السيارات الفارهة الحديثة ذات الشبابيك الغامقة انتقلت ورثتها من حاملي البطاقات الأمنية إلى حاملي الجُعب و السلاح الثمين وإن تغيّرت النمر.
على صعيد المخابرات والمحاكم٫ تغّير اسم عنصر الأمن (سياسي٫ عسكري٫ جوي..)٫ ليصبح: أمنّي (الأحرار٫ النصرة٫ الصقور..)٫ وأُضيفت صفتي “شرعي وشرعية” على القاضي والمحكمة.
وبدلاً من وساطة أبو علي وأبو جعفر وأبو حيدر لتسيير أموري في الدوائر الرسمية٫ أصبحت أتواسط أبو محمد الجزراوي وأبو الزبير التونسي٫ و أبو طلحة الأفغاني.
لكني مدني حقير لا أستطيع الوصول لأي من هؤلاء الأسياد والشيوخ٫ فقد أُرمى في الظلم شهوراً دون حس أو خبر.
لن يكتب أحد عني ولا حتى بوست بقصر “صباح الخير” ولن تحتل صورتي صفحتكم الرئيسية وبروفايلات الأصدقاء٫ سأمر إن كنت محظوظاً كرقم على يومكم سريعاً وأنتهي كما جئت٫ حقيراً.
لن يعتصم عند خطفي نشطاء الثورة ولن تنشر البيانات والتنديدات من كياناتها وبالتأكيد لن تتحرك مجموعات ودول للمطالبة بي٫ أنا لست ناشط ولا حتى أب ولا عم ولا خال لناشط فكل عائلتي من جنسي٫ مدنيون حقراء.
أضعت هويتي على أحد الحواجز وأصبحت بلا أي أوراق ثبوتية٫ أنا نكرة تماماً! لكن حادثتي لم تصل حتى لصفحة تنسيقية حارتنا على الفييس بوك٫ ولم يناقشها أي مجلس محلي ولا برلمان ولا وزراء٫ من أنا لتحدث مآسيّ الضجيج عالمياً!
تفصلني مراتب عمّن “ثار ويضحّي بحياته لأجلي”٫ و”من يضع روحه على كفّه مرابطاً لحماية عرضي وديني”٫ كتلك التي كانت تفصلني عن متطوعي الجمعيات الخيرية الأنيقين ذوي الرائح العطرة والأسياد وأسياد الأسياد في سوريا التي “عيونها خضر”.
أعدّ للعشرين قبل أن أكلم موظّف الاغاثة لئلا يغضب مني ويحرمني من معونة تستر عورة جوعنا٫ وأحني رأسي عند لقاء موظفي المنظمّات قابضي الأخضر أملاً بتنفيعة تطالني منهم وهم يعتاشون من وجودي.
الإعلانيون! آه من الإعلانيين! حاجرت إحداهّن مرّة كانت تصوّر بيتي المقصوف٫ فصرخت فيها “بيعي الكاميرا واشتري بها آليّة أخرج بها بقاياي من هذا الحطام!” استنكرت همجيتي وتخّلفي ورحلت.
ربما ستبيع الصورة بخمسين ألف! أو تربح جائزة بمليون لأني أخذت أفضل وضعيات البؤس ورسم هباب القصف على وجهي ملامح ظلّ فنّي.
لكن٫ ماذا لو لم أكن هنا؟ لو أن كل من بقيّ في هذا الحصار هم من الأسياد المجاهدين والنشطاء العارفين؟ من سيعمل؟ من سيتحدث عن ثورة؟ ماذا تعني مظاهرات لا يتغيّر فيها إلا الثياب واللافتات؟ وعن ماذا ستكون أصلاً إذا لم أكن أنا فيها؟
أولياء أموري المحترمين:
منعت إحدى هيئاتكم الطبيّة خروجي جريحاً خوفاً من اعتقالي٫ بينما يقصفني النظام لأني في أرض خرجت عن سيطرته٫ أحاول العودة لسيطرته٫ فيتهّمني النشطاء بالخيانة ويمنّون علي بالهواء الذي شاركتهم فيه٫ أكمل طريقي وسط الاشتباكات٫ تقصفني مدافع الجيش لأني أحمل “خلايا إرهابية”٫ وإن نجوت أعتقل لأنني صمدت في أرض الثوار٫ أكفر بعيشتي وحياتي التي لم تعد مملة أبداً..فيخطفني المؤمنون المعارضون لأنني… أنا الكافر..
أنا الكافر الحقير٫ الذي يعرف الجميع مصلحتي وما أريد أكثر من نفسي٫ ويقّررون مصيري بما يتناسب مع قضاياهم الكبيرة التي يصمدون في سبيلها٫ يُحاصرني الظُلم من تحتي وفوقي وبين جدران بقايا غرفتي الحقيرة..
نسخت على أحدها ما قرأته منذ زمن على بعض الحيطان في حلب “سوريا للسوريين ليست للثوار فقط”٫ رغم يقيني بأن كاتب العبارة منهم٫ فنحن لا نكتب عبارات منمّقة ومعبّرة..
أنا المدني٫ قبري بلا شاهدة ولا اسم٫ وجثّتي مخّلطة مع ضحايا مجزرة جماعية٫ لم ينتهي الناشطون من توثيق أسمي بعد٫ ولم يهمكم اسمي؟ من أنا لتسألوا عن اسمي؟٫ إذا كانت كاتبة هذه المادة بلساني لا تعرفه٫ فأنا..
أنا .. مدني حقير!
*خطوة في طريق المراجعة الشخصية الشائك والصعب
حطيت ايدك على الوجع…… وقت اتحررنا من النظام يلي كان خانقنا. ارجعنا وخنقنا بعض وظلمنا بعض اكتر واكتر
ترباية الحكام العرب لشعوبهم ماراحت سدى
وجع لاتتحمله الملائكة
رائعة..
تحية للمدني الحقير.
ما في أتم من هيك حقيقة يا زينة!!!
ربما سعيت للحديث – بصورة ساخرة – عن معاناة المدني (الحقير) وهذا توصيف لربما يبدو محقّاً ، لكن هناك شيء ما لا يعجبني …
لماذا يعتبر هذا المواطن الحقير نفسه كرة تتقاذفها السيقان؟ لماذا ليس له هدف يسعى لتحقيقه؟
هل مانحن عليه اليوم من صنع المريخيين ؟ أم صنعته أيدينا وبخياراتنا
بأفعالنا
أو بغياب أفعالنا
ملاحظة أخيرة:
ثمّ ماذا تقصدين بصحفية سوريّة جدّاً ؟ هل هذه رتبة من رتب المواطنة مثلاً
عداكي العيب