نقّبوني لأمعن في الغياب…

نقّبوني لأختبئ خلف القضبان السوداء المتراصّة، لا حداداً ولا حكماً أبدياً بالسجن، جسرٌ يربط بياض المحّطات الرئيسية في عمري كفتاة، المهد الأبيض، فستان العرس الأبيض، واللحد الأبيض.

نقّبوني، لأدرأ فتنة أنوثتي، وأحمي الشباب من مغّبة الوقوع في الإثم جراء بريق عيوني أو بداعة ملامحي الإنسانية…نقّبوني لأقبع في قوقعتي الرقيقة، لأختفي في حضوري الدنيوي، فداءً لحسن خاتمتي.

نقّبوني ..نقّبوني، لأكون حصريةً لأولياء أموري ومدّبري شؤوني، لأبيّض وجوهم بإخفاء وجهي، وأعزّز شرفهم بدفن بصمتي بكفٍ

أسود، لأحمي نفسي من سرطان الأنف والبلعوم، كما أكدّ الاستاذ الجامعي كمال مالاكر لصحيفة “سعودي جازيت” الصادرة بالإنكليزية، مشيراً إلى أن “النقاب يقي من العدوى في الجزء الاعلى من الجهاز التنفسي”.

ربما لذلك لجأت 200 طالبة مصرية منقّبة إلى وضع كمّامات كبيرة خلال امتحان منتصف العام الدراسي في كلية دار علوم بجامعة القاهرة، بعد صدور تعليمات بعدم تسليم أوراق الإجابات للطالبات المنتقبات، ومنعهن من أداء الامتحانات في حال إصرارهن على ارتداء النقاب.

نقّبوني لأفقد خصائصي الإنسانية في امتلاك هوية، والتواصل مع غير المجهولين، لأفقد القدرة على الأكل والشرب دون خطط اختباء عسكرية من المعروفين الضالّين، بعيداً عمن يستنكرني كزميلة، ويركد خلفي كعروس مثالية.

نقّبوني ليتحول خماري السميك إلى جدار فولاذي يعزلني عن الانفتاح والاختلاط والمعرفة، لأمشي في الشارع حرّة وأدخل الأماكن العامة والخاصة كحرّة.. لأعمل كخادمة وطبّاخة وبذّارة للأجيال القادمة بحريّة، أما التعليم..فلا!، ولم أحتاجه إذا كنت سأنعم بكل كل الأنواع من الحريّة؟

نقّبوني لأخلّ بتوازن علمانية سوريتنا الجميلة، وأتماهى مع قانون أحوالها الحنبلي الصنع والتطبيق، لا تطلبوا من أبي أن يرفع الخناق عني أو أن يتنازل عن اتفاقية (جامعة =إختلاط=بلاها أو للضرورة القصوى نقاب حاصنّ محصّن)، ولا تعذّبوا أنفسكم بتغيير الجوّ المتعصّب الذي أتنفسه، ولا الأفكار الديقة التي انتشلت نفسي منها بعد معارك ضارية لأدخل الجامعة…

شدّوا وشدّدوا على أفكار جدّي بأن الفتاة قطعة لطيفة من المفروشات المنزلية، وأثنوا على أخي الذي أخرج زوجته من المدرسة في الصف التاسع بإرادته الكاملة قبل أن يتلوّن وجهها بلون الخمار عندما تخسر آخر معاركها للتعلم، هذه المرة أمام القانون.

ماحاجتكم إلي في المدارس والجامعات فأنا مجرد كائن يطوف عزلة بتابوته الأسود، يغرق بعرقه صامتاً عندما تسقط عيدان الشمس عامودية عليه، ويكبح كزّ أسنانه برداً عندما يتطاير الخمار، خائفاً من كشف ما يَكشِف، الوجه.

نقّبوني لأذهب مع تسنيم في رحلة خيبتها أمام ثوبٍ أسود وقانونٍ يفتعل البياض، خمس سنوات في كلية الشريعة، معدّلٌ يترواح بين الجيد جداً والممتاز، مادة أخيرة تركتها للتكميلية، فتركتها الجامعة خارجاً.

في دينها وعقائدها هي بطلة الآن اقتربت من الجنة بمقدار “مقاتل في سبيل الله”، لم يطع المخلوق عندما طلب منه معصية الخالق…في ديني وعقيدتي، فقدت بطلتي تسنيم، تلك الفتاة الحيويّة المبتسمة التي اعتادت أن تعدّ لي الطعام وتوقظني باكراً أثناء الامتحانات، وتخرج خلفي إلى باب منزلنا الطلابيّ بالأدعية والتعويذات لأنحج..ونجحت.

تسنيم..ماذا سأدعو لك الآن؟ ليجعل منك الله زوجة صالحة وربّة منزل رضيّة؟ لتتفضلك الرحمة الإلهية بذريّة صالحة تملأ حياتك وتفرغها من كل ما كنت تحملين به؟ ماجستير، دكتوراه في العلوم الشريعة، أول مفتية في سورية و”مناضلة لتحصيل المرأة السورية لحقوقها التي منحها إياها الله وحرّمها العبد”.

ولمَ أهتم بتطوير تسنيم وآمالها وطموحاتها، منظرها يؤذيني، ويذكّرني بالتطرّف والتعصّب والنيل من حقوق المرأة وكرامتها والتمييز الممارس ضدها اجتماعياً ودينياً واقتصادياً والآن تعليمياً، والتي (طبعاً) لا يوجد أيّ منها في سورية.

فبعد قانون الأحوال الشخصية المدني العادل الجديد، وإلغاء عقوبة جرائم الشرف، والمواد التمييزية من قانون العقوبات، وبعد أن منحت المرأة حقها في ولاية أمر نفسها في الزواج وفي التطليق “دون وجود عذر يتعذر معه الحياة”، وأصبحت قاضية شرعية ورئيسة مجلس للوزراء، علينا الآن أن نخرج الغباش الأسود من حرماتنا الجامعية إلى الشوارع أو الأفضل، نقبرها في البيوت.

لم لا إذا كان مجلس النواب البلجيكي صوت لصالح منع الملابس التي تغطي الوجه و فرنسا، التي هي فرنسا، أقرّت مشروع قانون يفرض غرامة مالية على النساء اللاتي يرتدين النقاب في الأماكن العامة، صحيح أنها أعطت 6 أشهر فترة سمّتها “بالتربوية” لتطبيق القانون، إلا أننا لسنا بحاجة لها، فنحنا “متربّايين” لأقصى الحدود، بدليل أننا لم نحتد، لم نعترض، لم نسأل.

ما لا أفهمه حقّاً متى تحوّلت أمريكا إلى دولة إسلامية متشدّدة توافق على النقاب وتعترض على حظره، فقد جددت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما معارضتها لسن قانون يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة بفرنسا، وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن تعتقد أن “مثل هذه القوانين تؤثر على حرية المعتقد”، وطالب باحترام الحريات الدينية للجميع.

نقّبوني..نقّبوني لأفقد القدرة على تدخين النرجيلة فلا تنزعج من منظري “المنافي للتقاليد” حكومة “حماس”، ولئلا يضطّر مجلس الدولة المصري إلى تجميد عملي كقاضية بشكل نهائي “لعدم ملاءمة جنسي لثقافة المجتمع”.

نقّبوني لأن في رحمي وحدي ترتمي أفعال النهي والأمر، ومن جسدي تخرج كل الشياطين، نقّبوني لأختفي خلف كل هذا السواد وأمعن في الغياب…

زينة ارحيم

 

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. عارف يقول

    أعتبر نفسي صديقاً لمدونتك،لذلك أطالبك بالمزيد من الانفتاح وعدم التطرف ،يوجد الكثير من الكلمات والصور التي عبرتي عنها تدل على تناولك لهذه القضية بنمطية مكررة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.