بعد أسابيع احتجتها لأتآلف من جديد مع دمشق، التي اعتقدت منذ سنتي الثانية في جامعتها في عام 2004 أنها ستكون مكاني ووجهتي النهائية، حان الوقت.
أتجنّب الحديث عن المشاعر منذ سقوط النظام، ربما لأنها في فوضى تججاوز قدرتي على تفنيدها، وربما لأنني لم أعتد على هيجانها خارج أسواري المُحكمة، وهي ليست عاصفة وحسب وإنما مُتضاربة أيضاً كخليط من قّمة الفرح وقاع التفاؤل معاً، وذروة الراحة تترافق مع تيار رمال ضياع مُتحركة قطعت قدمي لأنجو منها قبل ست سنوات بما بقي من جسدي.
منذ وصولي لسوريا (التي كانت للنظام) وأنا أشعر بغرابة مزدوجة، هي الغُربة الأولى التي تعيشها العائدات والعائدون ممن هُجرّوا من دمشق إلى خارجها، وغربة أخرى عن سوريا مُختلفة عشتها في الشمال المُشتعل، لا تشبه تلك الأولى إلا في لغتها.
للسوريتين عملتان مختلفتان ففي الشمال الليرة التركية مازالت العملة الأساسية للتبادلات التجارية رغم قبول بعض المحال التجارية حديثاً لليرة السورية، والعكس صحيح أيضاً ففي مناطق النظام سابقاً ماتزال أغلب المحلات مُترددة في قبول العملات الأجنبية وتصرّ على الليرة السورية.
في الدولة الشمالية كهرباء لا تنقطع وهي مُسبقة الدفع، وشبكات إنترنت تركية سريعة يُحجب فيها ما يُحجب بقرار من الحكومة التركية فقط، أما في بقية البلاد فالمايكروسوفت محجوب، كذلك تطبيق الزوم وأغلب البرامج التي تحتاجها للعمل.
في محطّات الوقود، عُكست الآية، فالآن أغلب الكازيات عاطلة عن العمل في دولة النظام سابقاً بينما تُستخدم بشكل اعتيادي في دولة المعارضة سابقاً.
لم تُدهشني صور الأسد المُحطّمة كما مشهد تعبئة البنزين من الكازية، فمنذ أواخر عام 2011 وخروج مناطق ادلب وحلب عن سيطرة النظام أصبح هذا المشهد خيالياً بالنسبة لي! والأكثر إدهاشاً أنني أشهده في الشمال فيما تملأ سيارات العاصمة وقودها من عبوات بلاستيكية مصفوفة على الطرقات كُتب عليها بخط أسود “مازوت ممتاز” أو “بنزين لبناني”.
الطريق إلى إدلب
برز رأس الخوف عالياً من فوضى المشاعر عندما قررنا يوم السفر وأخذ يتلّفت حوله بفضول، على غير عادتي.. طلبت المُساعدة، فجاء خالي من الشمال حتى دمشق لأعود معه، كنت بحاجة لرسوخ علاقتي وثقتي به لأتماسك، لا أعرف من ماذا ولا لماذا. قررت أن أرحم نفسي من “كُسر الأسئلة”، فلم أكن في حياتي بهذه الهشاشة سوى مرّات معدودة.
على الطريق ضحكنا وتناقشنا بحدّة ونميّنا على الكثير من معارفنا وشربنا قهوة سيئة، مررنا على سهل الحولة ومريمين في ريف حمص، ولأن سيارتنا تحمل نمرة “إدلب”، كان علينا أن نبتسم عندما نعبر القرى العلوية لأن الخوف يتلبّسهم/ن ما إن يلمحونا، فأفتح الشبّاك وأبتسم، وحرصاً على عدم زيادة تجاعيد وجهي، أسأل خالي ما إن نخرج حتى أشلح ابتسامتي.
“نحنا منعرف خوفهم يا قلبي” قال خالي، ولأول مرّة أشعر بأشواك قنّفذ في معدّتي: كيف يُمكن لأي شخص أن يستمتع بكونه مخيفاً للناس؟ ما أبشع الشعور!
في القريّة اللاحقة نفتح الشبابيك أيضاً لنشاهد بيوتاً مقصوفة تشبه بيوتنا ونحيّ الحواجز التي يبارك عناصرها لنا بالتحرير بمجرد رؤية لوحة السيارة، فأفكر بكل الشبيحة والمؤيدين لنظام الأسد من أهالي مدينتي ومحافظتي والسخرية من أنهم كانوا مُتهمّين من قبل النظام بأنهم معارضة والآن يحدث العكس، بعد كل ما فعلوه بنا بسبب مواقفنا من النظام!
في ريف حمص تمّكنت أخيراً من سحب نفس عميق لهواء نظيف بعيداً عن دخّان المولدات والمحروقات الثقيلة، وما إن قطعنا حماه وبدأت خان شيخون تلوح بالأفق حتى عادت قبضات المعدّة..بعد زمان!
هي تلك سوريا التي أعرف والتي غادرت قبل تسع سنوات، البيوت المُدمرّة والشوارع المهجورة، المسلحيّن والوجوه الغريبة العابسة. قررت ألا أرتدي الحجاب هذه المرة كما اضطررت سابقاً عند دخولي إدلب مع “جيش الفتح” عام 2015، وقتها لم ألبس الحجاب فقط وإنما “مانطو” غامقة أيضاً، ولولاهما لما تمكّنت من العودة لمدينتي.
أخبرني الأصدقاء الذين عاشوا معي العودة السابقة بأن الأمور اختلفت “كثيراً”، والآن النساء غير المحجّبات يأتين بكثيرة في “رحلات سياحية” ويتجولن بالمدينة ولا أحد يتدخّل بهن، وذلك بعد أن مرّت فترات يتم فيها قياس طول “المانطو” للتأكد من أنها مُتوافقة مع الضوابط الشرعية.
عشت مشاعر العودة قبل أغلب السوريين والسوريات العائدين/ات الآن، لكنها كانت عودة قاسية من مكان يُقصف يومياً إلى آخر ينتظر القصف، ولم أكن نفسي. “أنا زينة” اضطررت لترديدها على من بقي من أهلي ومعارفي عندما ألحظ معالم التعجّب عليهم وأنا أسلّم بحرارة.
اليوم أريد أن أكون نفسي، فهذه العودة مُختلفة، لا طيّارات حربية في السماء، لا أسد، وقد أحيل أغلب المجاهدين إلى التقاعد أو لأعمال أخرى.
اختفت كل الحواجز التي مررت بها قبلاً، وحتى تلك الموجودة لم توقفنا، وهذه دهشة أخرى، فمنذ عام 2011 الحواجز أصبحت واقعاً في حياتنا، وقد طوّرت خلال هذه السنوات مهارات عديدة في قفزها وتعدّيها وأمدّتني بالعديد من القصص.
إدلب تُرّحب بكم..ولكن
دوار “المحريب” بالراية البيضاء العالية يستقبلك في مدخل إدلب وتحته خطّ فريق الرسّامين “سوريا لكل السوريين” مع تاريخ السقوط، ملامح مألوفة والكثير الكثير من الأشياء الجديدة.
المُلاحظة الأولى هي أن الطوابق الأرضية من كل المدينة تحوّلت لتجارية، المحل يلتصق الآخر، المولات والمطاعم الجديدة غيّرت معالم المدينة، وعدد النساء المُخمّرات غير مسبوق.
تذكّرت قصّة قديمة ترويها خالاتي عن ابنة شيخ معروف من المدينة، سألتها إحدى الفضوليات “لماذا لا تتخمرين وانت ابنة الشيخ الفلاني؟” فردّت عليها بحدّة “ابنة الشيخ لا تغّطي وجهها، ليعرف كل أهالي ادلب أين أذهب ومن ألتقي، لا شيئ أخفيه”.
محطّتنا الأولى كانت بيت جدّي في شارع “الخمّارة” والذي قُصف في آخر الضربات الروسية على المدينة قبل السقوط، شابّان يافعان يُصلحان ساعة الماء، صرخ أحدهما عندما رآني بدهشة “حطّي على راسك!”. اللحظة الأولى لي في مدينتي أمام بيت جدّي المقصوف وأنا في حالة ذهول لم أسمع، مما استدعى العامل الغيّور على الدين إلى تكرار دعوته عدّة مرّات، سأله خالي عن اسمه وعائلته فأجابه “ما دخلك”، فرد عليه “انا مادخلني باسم عيلتك وانت دخلك شو لابسة بنت أختي؟”.
لم يستطع العامل التقي أن يحتمل وجود غير محجبة في البناء، ترك الماء تتدفق من الساعة وابتعد، وأنا ارتجف، فكما يقول المثل العراقي “من تلدغه الحيّة يخاف من الحبل”. نزلنا الدرج بعد أن رأينا أن الجدار المُهدّم تم ترميمه، فمّر قربنا رجل بذقن طويلة وشارب حليق يرتدي أفغانية ومعه زوجته المنُقّبة، سألنا عماذا نبحث فأجبناه عن ذكريات حياة سابقة فقط.
دعانا للدخول للحديقة، وعرفنا أنه عُيّن بمنصب في شرطة حماه وهو نازح منها، وقد كانت عائلته بالمنزل أثناء الضربة، على غير عادة المجاهدين، كان الرجل ينظر إلي وهو يتكّلم، ويجيبني بكل مودّة بعدما عرف أنني عشت هنا ودعانا لشرب الشاي.
لم أجد شجرّة الكّباد ولا الليمونة التي كانت جدّتي توّزع أزراها كل صباح في أرجاء البيت لتعطيره، الياسمينة أيضاً اختفت ومعها عريشة العنب، “الحمد لله على السلامة” قلنا له قبل أن نغادر.
كيف لحياة واحدة أن تتسّع لهذه الحكايات؟
في المساء خرجت مع قريبتي وابنتها لشراء البزر، فلا أقدر من البزر على استدراج ذكريات ألطف عن مدينتي، لكن مُجاهداً أوزبكياً قرر أن يلحق بنا للمحمّصة وصرخ بي متفاجئاً “أين اللباس الشرعي! هذه إدلب يا الله!”، أخبرته أنني أعرفها قبله وقد وُلدت في الحارة المجاورة، فتوّسعت حدقته أكثر وأخذ يخاطب صاحب المحمصة طالباً منه أن يقول لي بأن ألتزم اللباس الشرعي أو أغادر! “هذه مدينتي أنت تغادرها، وقائدك يُقابل السافرات الآن اذهب للقصر وحاضر بمن هناك!”، قلت وهو يخرج، والشاب الحمصي الطيّب الذي يدير المحمصة ينظر إلي بمودّة ويطلب مني أن “أزرعها بذقنه”.
في اليوم التالي قال لي خالي، “إما بتتحجبي انت أو أتلثّم أنا! وليس لدي مشكلة بذلك” فرفعت الكوفيّة التي كانت على كتفي لتغطّي شعري لأُجنّب من بقي لي هنا تبعات خياراتي الشخصية.
شلل اعترى جسدي كاملاً وفقدت القدرة على الحركة، لم أخرج وحدي ولا مرّة، الشوارع ثقيلة وجلدي أصبح مُجددا حديداً صلباً وضيقاً على روحي، لماذا تفعلين بنا هذا يا إدلب؟
نهاية رحلة ثقيلة
منذ عشرين عاماً أكتب لـ “إدلبتي” رسائل، حتى أن زملائي بالشام كانوا يسخرون مني، ومن لمعة عيوني في كل خميس لأني سأعود إليك في عطلة نهاية الأسبوع، كتبت لك عندما كُنت “مُحتلّة” و عاتبتك وفضفضت لك عن ثورتي على ثوارك، وغنّيت معك عندما فردت أجنحتك واسعة للحرية وحينما أصبحت مشهورة أيضا كتبت لك، كما حكيت للأجانب عن بناتك و وأولادك المُخلصين الذين يحّولون كل غربة لوطن، وفي عام 2018 كتبت لك رسالة أخيرة..كنت أعتقد أنها الأخيرة..
وها أنا مُجدداً في بنائي القديم أبحث عن جملة غريبة خطّها ابن الجيران على درجنا ولا أجدها، أطرق الباب لأسلّم على عائلة نازحة تسكنه. يبدو بيتنا خرابة نظيفة، لا شيء فيه غير البُسط والغسيل المنشور على الشرفة، “هنا نقص وزني ثلاثة كيلوغرامات وأنا أمشي وأحفظ في كتب البكالوريا” أقول لطفلة تنظر باستغراب للامرأة الغريبة المُضطرّبة في منزلهم، كنت هنا، أنا من هنا، لم تصدقني كما المُجاهد الأوزبكي.
ليس لأهل البلد تقديرات عن عدد المجاهدين الأجانب الذين استقرّوا في المدينة، لكنهم في كل مكان، يملكون محالاً تجاريّة الآن ويعملون بمهن متنوعة، حتى أنهم ادخلوا ثقافاتهم فأصبح خبز الـ”كاتلاما” معروفاً، وأولاد الأوزبك والتركمان والكازاخستان والسعوديين وغيرهم أصبحوا في المراحل الإعدادية، وأمهاتهم/ن في الغالب سوريّآت، بعضّهن لا يعرف أسماء أزواجهن الكاملة، فقريبة شخص أعرفه كُتب على عقد زواجها مثلا “أبو محمد السعودي” فقط.
أتذكّر قريبتي التي أحبّت شاباً من حلب وقامت القيامة في العائلة “كيف ستتزوج شخصاً غريباً!” فالعادات الإدلبية تقضي بأن يكون العريس من المدينة نفسها وبأكثر العائلات انفتاحاً لا بأس بالمُحافظة لكن سلاسة العائلة يجب أن تخضع للبحث والتقّصي، طبعاً الأمر أسهل بالنسبة للشباب الراغبين بالزواج فنسلهم “مضمون”.
في النادي الرياضي النسائي عالم مُصغّر، مغربيات وسعوديات وأجنبيات يتكّلم بعضهن الفصحى، أفكّر كيف ولأول مرّة بحياتي تقضّ مضجعي قضية أناضل في سبيلها طوال حياتي وهي “التنوع والشمولية”! وكيف يمكن لثقافات عدّة وجدت سلاماً في العيش بمدينتي الصغيرة بظروف قاسية وفقر وقصف ألا تتعلّم التسامح؟
تقول صديقتي إن أولاد أختها لم يشاهدوا امرأة غير محجبة في حياتهم وهم مراهقين الآن، “يحتاجون إلى الوقت ليعرفوا أن الدنيا فيها بنات مو محجبة!” تقول لي مطمئنة وتسألني “متى العودة؟”..
لن أعود..
ذهبت إلى البريّة وودّعت جدّي الذي يغفى بسلام بجوار جدّتي زينب، سُمّيت تيمناً باسمها وأخذت من حبّها وصفاتها الكثير، ودّعتهما، آخر وداع “كما يقول إيهاب توفيق” وخرجت، غريبة كما دخلت.
لن أعود، أقولها مُجددا رداً على سؤال صديق عاش معي الحرب ومابعدها، “حكي!” يتحدّاني مستهزئاً فأؤكد “والله هذه آخر مرة، لا أحتمل الاختناق مُجددا، كبرت على هذا”، يسألني: وماذا عن موسم الحمّص الأخضر..
موسم الحمّص الأخضر؟
أصمت قليلاً قبل أن أرد بجديّة..ربما أعود مرّة أخيرة في موسم الحمّص الأخضر..
يالله شو حزين اللي كتبتيه وفيه غصة كبيرة…. لايمت الواحد بدو يحس حاله غريب حتى بمدينته…
انا كنت اسمع عنك زينة من عمتي مع انه انا بعمري ماعشت بادلب وكنت دايما شوفك الامل لبنات ادلب انه يطلعوا من الانغلاق اللي هنن فيه. بس هلا بظن مافي امل …
ادلب بالنسبة الي بيت جدي وعمومي بس ماكنت بعرف شي تاني بزيارات قصيرة وقليلة… بس دايما في شوية ادرينالين بيتحرك بس تجي سيرة ادلب المدينة الصغيرة الكريمة
الاسلوب حلو . هناك اشياء اهم بكثير من حرية عدم الحجاب. الزمن جزء من العلاج .القوم يتطورون .فلتكن ادلب حنونه على سكانها حتى الغرباء منهم . فلنعتبر انهم قاتلو من اجلنا ونوسع قلوبنا لهم . سوريا تصير اعظم عندما تكون عاصمة الامويين وليست فقط كما أرادها سايكس وبيكو ان تكون