في الصيف الأول بعد الثورة، قبل سبع حيوات وأمل، كتبت لك رسالة عنونتها “ لإدلبتي، الأكثر خضاراً من أي وقت مضى” قلت لك فيها: “إدلبتي التي كانت منسية لعقود، يتلعثم الآن بأسماء مدنك رؤساء العالم، تغزو صورك الصفحات الأولى للصحف الأجنبية وتحتل أخبارك الصدارة في إذاعات وقنوات الدول الأوربية المحلية. لم أعد مضطرة لأشرح مكانك جغرافياً بعدد خطوط الطول التي تفصلك عن حلب والعرض عن تركيا، يكفي أن أقول أني منك حتى يعرفونك، أجل لقد أصبحت مشهورة يا حلوتي، مشهورة بجروحك المفتوحة، بآلامك العصّية عن الاحتمال وبعرسانك الكثر والدبابات الجاثمة على صدرك ولاجئيكي والشهادات المخيفة عما يفعله السواد فيك يا خضراء”.
إدلبتي العزيزة، لم يعد يتلعثم باسمك أحد اليوم، حتى الرئيس الأمريكي المشهور بأخطائه الطباعية هجأ اسمك بالشكل الصحيح، صفّ أحرفه تماماً كما تتوزع على هويتي راسماً الهمزة التائهة والدال العالقة بين فكي الوحش كما يلتصق الصمغ بأشجار الجوز في موسه الأخضر، لام اللهفة الحالمة واللوعة المُلغمّة واللصوص والمفخخات، أما الباء فهي “بجرك وعجرك” التي يحبك المجانين فيهما ودونهما.
هكذا إذا، أصبحتي معروفة يا إدلبتي؟ وأنت التي وصلت ذروة شهرتك بمهرجان سنوي خصصوه لك مطلقين عليه اسم “المدن المنسية”؟ هل تعجبك الشهرة؟ كيف تشعرين وأنت عالمية يا صغيرة؟
لم أصدق آخر مرة زرتك فيها كم الأجانب المتآلفين مع شوارعك المعفّرة، والمستقرين بحاراتك المنسوخة بلا إبداع على عجل والتي لُقبّت بملامحهم، “حارة المكحلين”، أي المهاجرين من واضعي الكحل في العيون. أتذكر تماماً أول أجنبي وقعت عليه عيني في ساحة المتحف عام ١٩٩٩ كنت ذاهبة مع رفيقات المدرسة لنمضي وقتاً معاً في متحفنا الوطني، والمتحف هو المكان العام الوحيد الذي كان بإمكاننا الذهاب إليه عدا الحقول والمزارع وسهرات الطعام والبزر والنميمة في البيوت. على الباب لمحت مجموعة سعيدة ترتدي ملابس ملوّنة وتضع الكاميرات عقوداً، يشبهون العديد منّا في الملامح لكنّهم مستمتعين ومنجذبين يركزون انتباههم متعجبيّن مما نمّر قربه كل يوم دون اكتراث. عرفتهم من الدهشة! تركنا المعروضات الأثرية وتاريخنا الحافل وطلبنا أن نلتقط معهم صورة تذكارية، أعطاها لي لاحقاً من كان يحمل كاميرا التصوير الفورية، علقتها في غرفتي وكتبت تحتها: إذا نحن موجودين على خريطة العالم، ذكرى الأجانب في إدلب، ياياب طلعوا بيشبهونا!.
مما زاد دهشتي من معرفة الأجانب لإدلبتي وسفرهم الطويل للوصول إليها، أن العديد من السوريين الذين قابتلهم في حياتي لم يعرفوا عنها، كنت اضطر أن أشرح لهم وأرسم خريطة الزيتون والجبنة البيضاء وأتوستراد حلب – دمشق حتى ترتسم برأسهم صورة مغبشّة عن ذاك المكان القصي. نحن محافظة من أصل أربع عشرة، ألم تدرسونا في الجغرافية والقومية؟
وحتى من عرفها عندئذ، كان يحتاج لساعات من النقاش الممل ليقتنع أنني فعلياً منها! ففي تصوره النمطي، كل من في إدلب رجال أو نساء سمراوات يرتدين الخمار الأسود. لا شقراوات ولا عيون ملوّنة في المدينة! “أشو هالحكي!”.
خلال حياتي في إدلبتي، كان فيها سبع روسيات تزوجن إدلبيين درسوا الجامعة في روسيا بعد فشلهم بتحصيل المجموع المطلوب في البكالوريا، وعدّة حلبيات جميلات تزوجن من أغنياء أو أطباء من المدينة إضافة لألماني واحد جلبته “زوجته القادرة” عشقاً من بلده ليعيش في إدلب.
إلى أن تخرجت من الجامعة، كنت دائماً أشعر أنني أشنية علقت على الكيلة (علبة سمنة مفرغة يوضع لها قبضة حديدة وتعلق بحبل) لتسحب الماء من الجب (البئر)، قادمة من غياهب المجهول. اضطررت أحياناً عند سفرنا للاذقية للاصطياف أن أقول أني من الشام كسلاً. لكنها أصبحت قضيتي الصغيرة عندما عشت في دمشق، أصبحت أكثر عناداً في التعريف عن نفسي والشرح الطويل والصبور حتى يصلوا إلى إدلب، لست من شمال سوريا، لست من حلب، لست من جنوب تركيا، أنا من إدلب، وتشتهر إدلب، وتقع إدلب، ويعيش في إدلب، درس الويكيبديا كاملاً أتلوه على أذن السامع الضجران. ومع عملي الصحفي وجدتها تحتل موادي الأولى فمصادري منها وأهلي وزياراتي المتكررة التي أنفقت على باصاتها نصف مصروفي الشهري، حتى لقبّني زملائي بـ “إدلبتي” ساخرين ربما، لكني أحببت ذلك، أصبحت أُعرّف باسمها أخيراً.
إدلبتي العزيزة، وضعت لك ياء الملكية وأنا لم أشعر بحياتي فيكي بالاستقلالية أو الأمان إلا مرة واحدة، ذات مظاهرة صيف ٢٠١١، وقتها فقط آمنت وأمّنت رغم أنني كنت المرأة الوحيدة مع آلاف الشبان، قرر العشرات منهم رسم دوائر البصل حولي لحمايتي من بعضهم، رغم أن أي منهم لم ينظر في عيني الحائرتين المتسائلتين، هل هذه مدينتي؟ متى استبدلتموها؟ من هم هؤلاء الرجال؟ رغبة جامحة لدي بتفتيش هوياتهم لأتأكد أنهم فعلاً من هنا، هل ضرب أحدهم مؤخرتي قبلاً وهو يقود دراجته الهوائية؟ هل يعقل أن أي منهم لم يمّس جسدي وأنا عائدة من المدرسة للبيت؟ من أولئك إذا؟ ومن أنتم؟
تعرضت كالعديد من صديقاتي لتحرشات عديدة من رجال مقربين وأنا طفلة، لكني لا أعتقد أنها المسؤولة عن تخريب روحي. نجوت أيضاً من محاولة خطف مع ابنة خالتي ونحن نمشي على بعد مترين فقط من منزل جدي في وضح النهار. تعلمت الكاراتية، لا تخطيطاً لحماية نفسي، تعلمتها لأن النشاطات التي يمكن أن تفعلها الفتاة في هذه المدينة المملة قليلة جداً، وصادف أنني محظوظة بأخ يتدرب على اللعبة ويمتلك تفكيراً متقدماً لدرجة كافية أن يأخذني معه، لأكون -كما أغلب الأشياء التي كنت أفعلها هنا- الفتاة الوحيدة بين الصبية.
لم تنفع الحركات القتالية والجسد الرياضي بتخفيف عدد التحرشات التي كنت أتعرض لها، كنت ككل الصبايا مضطرة لاستعارة ذكر، ليمشي معي حارتين أو ثلاث حتى أزور صديقتي، ولو كان الذكر في السابعة من عمره وأنا في الثامنة عشر. إدلبتي إذا؟ ها؟ بأي حق؟
أذهب للمدرسة وأعود وأنا أتلمّس الجدران كالبزاقة، لأن الاقتراب من طرف الرصيف يعني تقليص المسافة بيني وبين الدراجات المارة في الشارع بمقدار ذراع، سيمتد نحوي غالباً، لا ليسرق أي شيء إلا كرامتي.
أمام مكتب أستاذ اللغة العربية الساعة ٢ ضهراً صيف البكالوريا، أهّم بقطع الشارع بينما تقف زميلاتي على الطرف الآخر بانتظار النداء الأخير، أطفئ حواسي القتالية والأمنية، فقد أصبحت بينهّن تقريباً. ينقض عليّ شاب من الحارة، لا يخفي وجهه ولا يركض حتى، يحضنني كمغتصب مشتاق وأنا أفقد لوني ووزني، تنشل أطرافي واقفةً ويهجر الدم عروقي، كجثة باهتة حضرت الدرس وأنا أحاول تجنبّ النظر بعيون الأستاذ والعرق البارد يغرقني. كانت هذه هي أول مرة يحضنني فيها “رجل” بحياتي.
عن الزيتون والتين الأخضر والوشنة ينصبون الأشعار، “هوياتك” والسهرات، توّحم أمهاتنا على البيلون (التراب) وجبلنا فيه وفيكي يحكون، لكنك يا إدلبتي لست خضراء تماماً.
الأسبوع الماضي كنت في مهرجان مزدحم يرقص فيه المحتفلون معاً بالشوارع، وجدتني أرتعد كلما لمسني أحدهم داعياً إياي لرقصة كما يفعل الجميع وبكل تهذيب. كنت قد اعتقدت أنني تجاوزت ما فعلته في شوارعك في ذلك اليوم. خمسة عشر عاماً مرّت على تلك اللحظة التي قررت فيها أن أرد ولأول مرة على المتحرش، أنظر بعينيه أمام بيتي تماماً وأقول له “إذا بتمر من هالحارة مرة تانية أو بشوفك عمتلطش بنت بدي ألعن أبوك”، كان جباناً وهرب فعلاً وهو يعتذر أنه لم يكن يقصد، جبنه وهروبه زاد قهري، استعدت مساء الشريط الطويل من المتحرشين باكية ومتساءلة إن كانوا جبناء مثله أو أنني كنت أجبن منهم جميعاً!
إدلبتي القاسية، المزدحمة باللاجئين والنازحين والمهزومين والمشردين والأشرار، أدين لك بمرونتي، بقوتي، بعزمي وإصراري وقسوتي، أدين لك بخوفي من الضعف والحب والعواطف، أدين لك بلقب “الجلمودة” يكنيني به صديقيّ الأقرب.
وتدينين لي بأيد ترجف وعيون رطبة تعكر شاشتي وأنا أخط هذه المدونة عنك في القارة البعيدة الآمنة.
إدلبتي العزيزة، لي فيكي قبران غاليان على البيدر في حاكورة رفعت عليها الأعلام السود، وبضع أخر موزعين لأصدقاء ما كنت لأبقى حيّة لولاهم، ولي آخرون أحياء لا يرون فيّ إلا “بنت البلد” يرخصون لأجلي روحهم باختلافاتي ومشاكساتي ومشاكلي العديدة. ولي عُقدي ووصمات معاركي وآثار العادات والتقاليد والعيب والـ”ما بصير” التي شوهت روحي، ولي بقايا قلب مُتعب بكاكي كثيراً عندما رآكي تبدلين راياتك الحمراء بالسوداء ووجدني فيكي غريبة يوم “التحرير”، ويفعل المثل من الفكرة المعاكسة، ولي بيت طفولتي والشباب الملّون والذي قررت ألا أدخله وأنا أمامه، لئلا يشهد ضعفي وانكساري وغربتي وأنا في إدلبتي…لم تعد إدلبتي..لم تكن أبداً إدلبتي..
إدلبتهم جميعا العزيزة، حنّي على من بقي فيكي ومن أتاكي من جب أعمق وعدم أقسى، ارحميهم وديري بالك عليهم يا خضرا… وبالسلامة يا مشهورة.
مقال جميل لكنه مع الأسف يدعو كما يروج إعلام النظام و العالم للقضاء على هذه المدينة بمن فيها و كأنه واجب لابد منه…. الكل يحاول أن يجد عذرا لاستباحتك يا إدلب
كنت دائما أحترم قلمك و لكنك اليوم كنت خنجرا آخر وطعنة فوق ما فيها من طعنات…
كل إناء بما فيه ينضح, فالخير و الشر موجود بكل مكان, مع الأسف ما ذكرته موجود في إدلب و في الشام أكثر و موجود بشيكاغو و لندن و كل دول العالم.. بل الإنسان على نفسه بصيرة..
كنت أظنك قد تخلصت من المناطقية و العنصرية و الطائفية مثل كثير من الأحرار السوريين و أصبحت انسانة حرة تفكرين بالإنسان كإنسان و ما يقدم كإنسان, بغض النظر عن كونه من إدلبك أو إدلبهم…
مجنونة عظمة
الله يعين بنتك عليكي شو حقودة و ناقمة
لماذا لم اشعر بالسخط مما كتبته هذه (الادلبتي ) !!!
لم أجد فيها ما يسيء الى ادلب وكل ذكرياتها عن مدينتها نستطيع كلنا أن نتذكره عن مدننا وبلداتنا الممله لو كنا نملك موهبتها وسلاسة تعبيرها السهل الممتنع .