ثلاثة أحرفٍ (بنت) نحتَت مسارات حياتي منذ هجرتي القاسية من رحم أمي على يد خالتها، أم رامي، في مدينتنا التي كانت منسيّةً قبل أن تُصبح أخبارًا عاجلة، إدلب في سوريا.
كما كل البنات في مدينتي، وُلدت مع طريقٍ مرسومٍ بمحطّاتٍ مُفّصلةٍ ومُنزلةٍ في كتبٍ عديدة، بعضها مُقدّس، وأغلبها مخطوطاتٌ من أفكار ذكوريةٍ مُتوارثةٍ أصبحَت أعرافًا يُجرّم التساؤل بشأنها.
تُسيّج محطات حياتنا بحقول صبّارٍ في العائلات الحنونة القليلة، وتُزنّر بالألغام في العائلات الأخرى، وعلى بابها كتبوا “خطؤك الأول هو خطؤك الأخير”. لا مجال للعفوية والفضول، والمُخاطرة بالشذوذ عن أيّ طريقٍ تحتاج لروحٍ متمّردةٍ لا تخشى الخسارة.
محطّاتٌ وهوامش
في المحطّة الأولى، تتعلّمين أصول الطاعة، وتعاليم الأنوثة، ومبادئ الرعاية المجّانية والتضحية التي جُبلتِ عليها لأنكِ وُلدتِ بأعضاء حميمة سُميّت أنثوية. في الثانية، يُزرع الرعب في قلبك على يد الأهل والجيران والرجال وجهنم؛ رعبٌ من التلصّص على المساحات العامة التي يصول فيها الرجال ويجولون، رُعبٌ من الرغبة، رُعبٌ من الاكتشاف، من الأسئلة.
رُعبٌ من جسدكِ وشعره وتموّجاته وآثار الألعاب “الصبيانية” الموشومة عليه: بقعةٌ سوداء داكنة تحت الركبة إثر سقوطكِ على أرض الشارع الإسفلتي في خلال لعبة كرة قدم، وبُنصرٌ معقوفٌ قرّر أن ينحرف إثر وقوع كرة السلّة عليه. ورعبٌ من الحب، ذاك الحب المُحرّم الذي يُهدّد حياة البنات، أو كما أطلق عليه ابن خالتي الأصغر “حبّ التجويز”. تعلّمتُ أنّ “حب التجويز” – أو الحب الرومانسي – هو دومينو من الشّر، يبدأ بالعواطف البريئة وينتهي -عند انفلاته من هرم السلطات القمعية العديدة- بالنفي، أو الوصم أو الموت.
لم أسَل نفسي أبدًا ما إذا كنتُ أريد الحب، كما لم أفكر ما إذا كانت إزالة كامل شعر جسدي بالسُكر المحروق المُوجع أمرًا واقعًا لا بد منه، أو ما إذا كانت العلامات التّامة في مواد المدرسة الصارمة تستحقّ فعلًا كلّ ما بذلتُ في سبيلها من وقتٍ وتعب. لم أتساءل ما إذا كان الشّعر الطويل اختياري، أو لماذا أرتدي الفساتين غير المريحة وأشارك في جمعات البنات التي تُخصّص لمناقشة خصال أفضل العرسان المستقبليّين.
ورغم جهلي وتجاهلي لكلّ ما أحب، قرّرتُ أنني – بعد نجاحي في البكالوريا – سأتزوّج فورًا من رجلٍ يُحقّق الشروط، وسأنجب منه دستة أطفال. كانت تربية الأطفال موهبةً “فطرية” تمرّنتُ عليها مع أولاد وبنات أقربائي في مُراهقتي، إذ كنتُ في كثيرٍ من الأحيان أتحمّل مسؤولية رعايتهم/ن لأيامٍ عدّة، وحدي، تحضيرًا للمحطة الثالثة.
في تلك المحطّة الأخيرة، سيتوقّف قطار حياتي عندما أصبح زوجةً وأمًّا، لتنطلق بعدها قطارات أطفالي. وبالتالي، أحتاج للإعداد لهذه المرحلة والتدرّب على مهارات جذب الرجل المناسب لأمارس معه وظيفة التكاثر.
كان كلّ شيءٍ فيّ مراهقتي يسير وفق الخطوط المُقرّرة لمسيرة حياتي، رغم انحرافي لهوامش “غير طبيعية”، كحبّي لرياضة الكاراتيه، والانتشاء قوةً بركلةٍ سريعةٍ سدّدتُها على وجه فتًى يكبرني سنًّا لأنه قال لي أمرًا ما أزعجني. أحببتُ أيضًا مقاومة الريح وأنا أقود درّاجتي النارية، تلك الدراجة التي تركبها نساء مدينتي خلف الرجال ويتحتّم عليهنّ وضع سيقانهنّ مضمومةً إما على جهة اليمين أو اليسار منها تفاديًا للمباعدة بين الفخذَين وكشف “أغلى ما يملِكن”. أحببتُ أيضًا الشعور بالخّفة في أثناء تسلّق أعالي أشجار الزيتون والتوازن فوق أغصانها في حقل جدّي (البريّة). كنتُ “السعدانة” التي يطلبها كل أقاربنا لمُساعدتهم في مواسم القطاف، وتلك كانت وظيفتي الأولى.
عرفتُ إذًا ما كنتُ أُحب، لكنني لم أجرؤ على مجادلة نفسي في شأن أيٍّ من المحطّات المُقرّرة لي منذ ولادتي بنتًا، بالإضافة إلى تربيتي البعثية العسكرية في المدارس السّورية العامة. كانت الطاعة واتباع القواعد مُسلّماتٍ كحاجة أجسامنا للماء والهواء، هي حقيقةٌ علميةٌ وأمنيةٌ غير قابلةٍ للنقاش ونقطة على السطر.
الحبّ على السّكة
“الحُب للرجال”، قالَت لي صديقتي في الصف السادس. “وماذا عنّا نحن؟”، سألتُها باستغراب، فأجابتني: “نحنا شغلِتنا نخلّيهن يحبّونا”. هذا إذًا عنوان المحطّة الثانية في حيواتنا وهدفها الاستراتيجي.
لم يكن الُحب مُقررًا في الفصول الدراسية لحياتنا كبنات. ثمّة جملتان أتذكّرهما بوضوح، تعرّفان ملامح الحبّ في أسرتي التي تُشكّل النساء أكثر من 80٪ من تعدادها:
“يخرب بيتها، بتحبّ جوزها!”، قالت خالتي لأمي مرةً في جلسة نميمةٍ على صديقةٍ مُشتركة. بُهتنا جميعًا يومها، فكيف يُمكن لامرأةٍ أن تحبّ زوجها؟! ألَيسَ الحُب شعورًا مُراهقًا ينتهي مع النضوج؟ وإن وُجد، فيجب أن يكون عذريًا نحو شخصٍ بعيد المنال.
أما الجملة الثانية، فقالتها أمي باستنكارٍ عن جارتنا: “عم تحبّ وتعشق وولادها بطولها”. وافقَها الجميع على الإدانة، وسألتهنّ أنا بكلّ جديّةٍ وفضول: “كيف يمكن لأمٍّ أن تحبّ أيّ شخصٍ غير أولادها؟”. لم تتغيّر فكرتي هذه حتى في الجامعة. أتذكّر جيدًا كيف دُهشتُ عندما أخبرني صديقي أنه على علاقةٍ بامرأةٍ لديها طفل؛ سألتُه ببلاهة: “ولماذا هي معك؟”
ولأنّ قضايا الحبّ ونقاشه بشكلٍ عامٍ يرعب الفتيات، فقد يُطلق العنان لدومينو الشائعات والفضائح، وصولًا إلى استفاقة وحش “العنوسة” الذي يأكل مصير البنت مُتعدّدة العلاقات (أتحدّث هنا عن علاقات الحُب الهاتفية المُتتابِعة لا المُتشابِكة).
في تسعينات القرن الماضي، لم يكن لقاء الأحبّة ممُكنًا في مدينتي. ولم يكن لدينا أماكن عامّةٍ نجلس فيها على طاولاتٍ مُتجاورةٍ لنتعرّف إلى ملامحهم/ن عن قرب. كان للحبّ صوتٌ وخيالٌ وحكاياتٌ نتشاركها حصرًا مع الصديقات المُقرّبات الموثوقات، بأصواتٍ هامسةٍ وعيونٍ مُتلفّتةٍ جيّدًا خوفًا من مُسترقي السمع.
لكن حتى تلك العلاقات الغرامية الهاتفية لم تنجُ من القمع مع اختراع “الكاشف”، فما إن دخل ذلك الجهازُ بيوتنا حتى توّقفَت كلّ المكالمات الموسيقية التي كنّا نستمع فيها إلى الأغاني بدلًا من تبادل أطراف الكلام.
كان الردّ على الهاتف في بيت جدّي الذي كانت تسكنه ستّ نساءٍ عازباتٍ قضيّةً شائكة، فإن أخطأ الحبيب الهاتفي بصوت حبيبته وكلّم امرأةً أخرى يعرّض العلاقة للتهديد والفضيحة. وإن أغلق الهاتف ولم يتكلّم، تُفضح الحبيبة التي يعتريها التوتّر وتحاول انتشال السمّاعة بسرعة. وفي بعض الأحيان، كان الحبيب يُجهّز أغنتَين على شريط الكاسيت، فإن ردّت حبيبته شغّل “أشكيك لِمين وانت الحبيب وأقرب لي من أقرب قريب” لكاظم الساهر، وإن أجابت خالتها شغّل أغنية “وهي عاملة إيه دلوقت” لعَمر دياب.
أما الطريقة الوحيدة التي كان يُمكن للبنت أن تتعرّف فيها إلى حبيبها شخصيًا، فهي أن يكون من الأقارب، وأن يكونا محظوظَين بعائلةٍ منفتحةٍ تسمح بالاختلاط.
عندما أفكر بالحُب والمُراهقة الآن لا أتذكّر من اعتقدتُ أنني أحببتُهم، لكنّني أتذكّر صديقتي التي شاركتُها تلك المشاعر. على شرفة منزلها، كنّا نجلس رفقة إبريق شايٍ بالقرفة وصحنٍ فيه بذور دوار الشمس، وبجوارنا كتب موادّ الاجتماعيات مفتوحة الصّفحات لتغطية تلهّينا عن الدراسة، بينما يصدح كاظم الساهر من شريط الكاسيت الذي سجّله لي أحد الأحبّاء.
في حكايات الحبّ وسيَره وأغانيه التي تبالغ في تبجيل حبّ “التجويز” الغَيري الرومانسي ذي الأدوار الجندرية الحديدية، يُهمَّش حبّ الصديقات ووجودهنّ في حياتنا. ننشأ على فكرة أنّ في حياتنا “أمير” هو بطل الحكاية، وكلّ مَن دونه كومبارس. هكذا نتجاهل كلّ الدلائل التي تُثبت لنا أنّ البطلات الثابتات في حيواتنا هنّ الصديقات، لاسيّما أولئك اللواتي يصمِدن معنا ونصمد بهّن على حافّة الموت.
خارج السياق… في الحرب
فيضان دمٍ ساخن يُغرق العروق. تلتهب الحرارة في الأذنَين، وترتطم العروق بقرنيّة العين في محاولةٍ للخروج من الحدقة. تضرب دقّات القلب الصدرَ كسمكة قرشٍ في قنينة. تعلو الضربات وتتسارع مع صفير البرميل قبل أن يهوي بالقرب منّا… غيبوبةٌ مؤقتة، وصممٌ في الرأس لا يُسمع فيه شيءٌ سوى ضربات القلب، ثم عودة للحياة تدريجًا تصاحبها صرخات المُصابين والمصابات.
تسري تلك الرعشة الباردة من أطراف الأصابع حتى فروة الرأس. أفتح عينيّ لأكتشف أنّي نجوتُ مرّةً أخرى، بالصدفة.
بوصفي امرأةً “جلمودة” -كما لقّبَتني صديقتي- لم أفقد قطّ السيطرة على نفسي و جسدي. منذ نضوجي، أو حتى قبل ذلك بأعوام، أعرف كيف أضبطهما وأتحكّم بهما تمامًا، وأمارس عليهما سلطةً ديكتاتوريةً استنسختُها من نظامٍ ثرتُ عليه لكنني طبّقتُ سياساته على نفسي بحرفيّتها… إلى أن ضربَتني درجاتٌ من الخوف لم أعرف يوجودها قبلًا. قاومتُ لسنواتٍ عدّةٍ ثم سقطتُ.
تجلّى انحسار سيطرتي على جسدي برجفةٍ لاإرادية في اليدَين و أوجاعٍ في المعدة تشلّني لساعات. كانت هذه الأعراض تُصاحب هدير طائرةٍ حربية، أو شخرة “الفيل”، أو رؤية تمثالٍ بشرّي رماديّ اللّون يخرج من تحت الأنقاض في ذهول.
لم أعد قادرةً على ضبط أكلي وشربي وحركتي ومشاعري. خرجَت كلّها عن السيطرة بفُجورٍ وعنجهية. أما الأوهام والحِكم التي كنتُ أستخدمها لبرمَجة نفسي ففقدَت قدرتها على التأثير، وأصبحَت بين يومٍ وليلةٍ منتهية الصلاحية.
الحبّ فعل بي كلّ هذا أيضًا! كيف لهذه المشاعر التي يتغزّل بها سكّان الأرض أن تذكّرني بأسوأ التجارب؟ لم أفكّر قبلًا بالتفسيرات الكيميائية والحيويّة للحبّ، وكيف يُمكن لتأثيراته أن تتطابق مع فزع الحرب. لكنّ سيطرته على جسدي أرعبَتني وأعادَت إليّ كل تلك الكوابيس. كلّ ما في الحبّ أعادَني إلى ما عشتُه في ممرّ منزلي الذي مددتُ فيه فرشتي أرضًا للاختباء من القصف والقذائف.
بعدها، قرأتُ مقالًا بقلم د.إريك هاسيلتاين نشره موقع “سايكولوجي توداي” الأميركي، يقول فيه إنّ الهرمونات التي يفرزها الدماغ عند الفزع تتشابه إلى حدٍّ كبيرٍ مع تلك التي يفرزها عند الحبّ!
إنّها إذًا هرمونات الأدرينالين، والدوبامين، والسيروتينين والأوكسيتوسين، أو ما يُعرف “بهرمون الحبّ” الأساسي لإبقائك على قيد الأمل بالحياة وسط الموت العشوائي والمجّاني. وربما كان هو أيضًا المسؤول عن الرعشة الباردة التي تنتابك بعد القصف، تلك التي تنسيكِ أنكِ نجوتِ فقط لأنّ أناسًا آخرين ماتوا بدلًا عنك.
في الحرب والحبّ وما بينهما، وحدهنّ الصديقات يضبطن إيقاعات الهرمونات ويهدّءن من روع القلب وأوجاع المعدة. كان العام الماضي قاسيًا جدًا عليّ، حتى أنّي أسميتُه عام الحُمّى. وبينما كنتُ أتماثل للشفاء من تلك الحُمّى، غمرَتني سكينةُ الامتنان لحبّ الصديقات ممّن فخّخن قطارَ القدر وحلّقنَ معي فوق أشجار الزيتون، وأيضًا الأخريات اللواتي سِرن في الطريق المرسوم واكتشَفن أنّ الحياة لا تتوقّف عند المحطّة الأخيرة.
اكتشفتُ أيضًا أنني لا أحتمل الأطفال وأكره ضجيجهم، وأنّ الحبّ مُرعبٌ كالحرب. عرفتُ أشياء أخرى لا أجرؤ على كتابتها باسمي من دون ستار، كما أدركتُ أنّ الحظ قد يأتينا في هيئة صديقة.
في عيد الحب، لصديقاتي ورفيقات محطّاتي أحضانٌ وباقة أزهار دوّار شمسٍ مُثقلةٌ بالبذور.
هذه المادة منشورة في عيد الحب في جيم عام 2024