في النصف الآخر من الكرة الأرضية تجمعنا سوريتنا ومعارضتنا للنظام -وهي أسس كانت سابقاً تُعتبر قاعدة متينة لبناء العلاقات- يقول لي بثقة وقناعة “كل المسلحين إرهابيين وسرقولنا ثورتنا”..
وأنا تسرقني صورة عبّودي من الجلسة الوديّة٫ ضحكته مازالت ترّن بأذني٫ عبودي مقاتل إسلامي في لواء التوحيد٫ عبر منطقة عسكرية يسيطر عليها النظام لينقذ حياتي ومعه قنبلتان ليرمي إحديهما على جنود الجيش الأسدي والثانية على نفسه إن ساءت الأمور.. باسل عيسى القائد الطيّب الذي كان ينتظر سقوط النظام ليلقي سلاحه و “يدبك ويرقص ويمكن يتجوز ع العيد” كما قال لي قبل أيام من استشهاده٫ هاشم الشاب الجامعي الخجول الذي كان يقود مظاهرات ادلب “هتّيف” كما يُعرف٫ قدّم كل ما يملك في سبيل الحرية واستشهد لأجلها بعيداً عن أم ملوّعة أعطت للثورة ابنين.
ربما أضحت الحرب شخصية أكثر مما يجب في حياتي٫ ربما الرؤية الأوضح تؤخد من العين المُراقبة من بعيد٫ لكن سماعَ تأطيرك وتعميمك لما تراه وتقرأه من فيديوهات وأخبار (يصورها وينشرها الثوار) لتبني موقفاً بهذه الصرامة تحتاج لطاقة احتمال أكبر مما يملك إنسان يعايش تفاصيل الحرب بكل بشاعتها.
وصفت صديقتي مرسيل شحوارو بعضاً من هذا “بحبوب إراحة الضمير” وفي هذه الوصفه:
– اللي برا أصلا فيه يقدم للثورة قد اللي جوا وأكتر ..
– أنا ما بقدر أرجع عسوريا أنا مطلوب من الجهتين
– أنا البلد بحاجتي في الإعمار لبعدين
– أنا ما بخاف من داعش .. بس هلق انتقاد ” اعتقال الناشطين ” يعتبر ” شق صف”.
– أنا ماني منحبكجي بس نقد الثورة .. بيعطي فرصة للإعلام النظامي يحكي ..
– ما طالع بإيدي شي .. شو صفيت عليي ليسقط الأسد ؟
– أصلا ً ما عاد في ثورة بالبلد ..
– ما عم نام ولا عم اشرب ولا عم اكل .. الله وكيلك مقضيها عالفايسبوك واليوتيوب هالثورة استنزفتنا من جوا
– السلاح ما خلى للشغل المدني مطرح نحنا الثوار ما عاد إلنا الدور .. الحكي هلق عالتوازنات الإقليمية
ونيالو .. اللي مصدق هالجمل … وبيضل بيرددها لحالو مش عارفين عيونك … شو حلوين
أنا لا أحد لأقيّمك على الصعيد الشخصي فأنا لا أعتبر نفسي حتى ثائرة.. لست إلا كائناً يشعر بمسؤولية كبيرة اتجاه أهل ينتمي إليهم بأخطائهم وطمعهم ومشاكلهم وتعصّبهم قبل طيبتهم وكرمهم وشجاعتهم٫ وكلما أقوم به هو مجرد مساعدة للثوار على الصمود و تخفيف الأهوال التي يواجهونها لا أكثر…ومن موقعي هذا ولأني جرّبت أن أكون بعيدةً عن سوريا وفيها خلال الثورة٫ أعتقد أني أعرف ما يكفي حتى ألاحظ فروقات بارزة بين الثائر والمعارض:
- المعارض يخاف من الموت فيبتعد عن مسبّباته ليستقر حيث يجد الأمن والأمان.
الثائر يخاف من الموت لكنّه مستعّد له في سبيل حرية سوريا من كل المستبّدين.
- المعارض يرى حياته أثمن من الهدر “المجّاني” فينتظر انتهاء الحرب بتضحيات الثائرين حتى يعود “ليعمرّها”.
الثائر يرى حياته ثمينةً بالمقدار الرفيع الذي تستحقه بلده.
- المعارض حوّل علاقته مع الثورة و الوطن إلى “in a complicated relationship” وبعضهم إلى “open relationship”.
الثائر بعلاقة مُتعبة لكنها دائمة مع الثورة ومع سوريا٫ وثوّارُها بقائمة عائلته وإن غضب منها وتركها لبعض الوقت سيرجع دائماً بكامل الاستعداد ليعطيها الحضن الأخير.
- المعارض يلوم كل شيئ من القدر حتى الثوار المدنيين لأنهم حرفوا “ثورته” التي يريد عن مسارها بينما هو يراقبهم ويغضب ويوّجه ويمتعض وأحياناً تصل انفعالاته لدرجة كتابه “تحشوكة” ع الفييس بوك! الله أكبر!
الثائر يعيش انحرافات مسار الثورة كل يوم٫ تحّفه رياحها وتترسّب فيه تغيراتها فيتكيّف ليبقى مفيداً بأي شي يستطيع تقديمه من دعم نفسي للأطفال لتوثيق مايجري إلى القتال على الجبهات.
- المعارض يناقش قضايا كبيرة تتناسب مع وزنه كالعدالة الانتقالية وبناء الدولة وحل الصراعات.
الثائر يناقش كيف يستمر في جنون هذه الحرب٫ سبل مساعدة المدنيين على الاستمرار إضافة لدعم أصدقائه الثوار في محنهم الكثيرة من استشهاد رفاق لموجات الاكئتاب الكثيرة.
- المعارض يعترض على خطف داعش للنشطاء ويعبّر عن ذلك أيضاً عبر صفحته على الفييس بوك.
الثائر يتظاهر ضد الخطف٫ يعلّق صور رفاقه في الشوارع ويبخّ أسماءهم علي جدرانها٫ يطلق حملات باللغات الأجنبية ليوصل رسائله ويغرّد ويتواسط ويبحث ويسأل عنهم من مقرّ لآخر.
صديقي المعارض…كيف لك أن تناقش قضية التسلّح -الواقعة منذ أكثر من عامين أساساً- وأنت لم تجرّب شعور انتظار مداهمة الجيش لمنزلك أو اعتقالك بأي لحظة٫ المناطق المحررة كانت حتى وقت قريب ملاذاً يحميك من الاعتقال ويعطيك كل المجالات للعمل.تعترض على تسليح الثوار ولم تطرب أذناك بأصوات الميغ والقذائف تتراقص حولك والبراميل تتهادى بتأن على أنغام الريح بينما أنت تنتظر مصادفة موتك أو حياتك.
كيف لك أن تحكم على المسلّحين كل المسلّحين ولم تتشارك صندويشة فلافل مع أحدهم٫ لم تسمع بكاءه على رفيق درب ولم تغطيك دماءه الدافئه وهو مصاب.كيف تقّيم عمل النشطاء المدنيين في مناطق لم تزها مع فوضى -تعتقد بأنك تفهمها- ومع وجود مسلحّين مُشكلّين بين عصابات سرقة وتهريب حتى انغماسيين خرجوا لنصرة أهلهم وليفتحوا طرق عودة لمدنهم وبلداتهم من جيش احتلّها٬ وكيف تغضب منهم لأنهم لم يفعلوا “الصواب” وأنت لا تنوي العودة للمكان الذي يدفعون حياتهم لجعله أفضل!
كيف تمّن على الثورة بنشاطك وأنت لم تعجن تراب قبر رفيق بدموعك ولم تنكسر مرّات ومرّات أمام شاهدة قبره المصنوعة على عجل؟ كيف تقارن ما تقدّمه للثورة بذاك الذي مازال يناضل في سبيل دولة عدالة وحرية بينما تنهال عليه قنابل الأسد وإلى جواره يمشي مُلثّم بحزام ناسف!!
كيف تؤسس منظمة سورية للعمل بالشأن السوري دون أن تجرّب العمل لخمسة أيام دون كهرباء ودون أن تصطّك أسنانك برداً وأنت تستحّم بطنجرة ماء تم تسخينها على غاز صغير برأس واحد٫ دون أن تنكسر ميزانتك بشراء بنزين للموّلدة لتخنقك رائحتها وتصمّ أذنيك بجعيرها؟ كيف وأنت لم تمّر على حاجز يقع قلبك فيه وآخر تضحك معهم وثالث يقّدم لك صندويشة جبنة ليصير بينكم خبز وملح.
لا أؤمن بالمعادلة السهلة التي تربط دائماً المعارض بالخارج والثائر بالداخل٫ ففي الداخل معارضين وبالخارج ثوّار٫ لاحظت مثلاً أن العديد من المكاتب الإعلامية في دير الزور تعتمد على ثوارها المغتربين بشكل كبير للقيام بكل المهام التي يمكن القيام بها خارج سوريا من مونتاج لكتابة التقارير لصياغة الأخبار وإعداد البوسترات….
صديقي المعارض (وخاصة الخارجي)٫ أنت فقط من لديه القدرة على اجتياز حقل الألغام هذا وقطع الكهرباء عن أسلاكه٫ ارتد حذاءك الرياضي واعبر للثائر٫ لا تلتقيه في منطقة محايدة فهو مختلف هناك٫ التقيه في أرضه وبين جمهوركما فهو لا يملك جوازاً ولا فيزا تؤهله للعبور نحوك.وبالمناسبة وللأمانة أنا أكره السلاح…أكرهه جداً وأكبر أمنياتي هي أن يمتصّ مغناطيس عملاق كلّ مافي سوريا من حديد ويتركنا نتشاجر بالأيدي..لكنني أحب الكثير من حامليه الأبطال وأأتمنهم على روحي..