سنة وبضع حيوات، بفصول متنوعة كارثياً، وزوابع من مشاعر غرائبية ومعارك صاخبة في الرأس لا تعرف الهدن ولا السكون. سنة وبضع أرواح، احتجتها لأرى ماذا فعلت بي، وألق نظرة فاحصة على الجثّة الحيّة التي أصبحتها، مرميّة على هامش عقدي الثالث بعقل متوّهج كقنابل فوسفورية، وقلب مُسطّح كشفرة على مرمر فضّي برّاق.
كسُمّ عذب تسللت قبل عام في خلاياي، تدوس بدلع فوق خلية فتنتفض الأعضاء كلها على نغم خطواتها، تقف صفوفا منتظمة كسلاسل طليعية مُحمّلة بالأزهار الاصطناعية والابتسامات المنسوخة، تنتصب بجديّة إلى أن يمّر الرفيق المسؤول، تنحني بإجلال عند وصوله، آملة أن يلامس شعرها المتطاير هالته المقدسّة، فتتبارك. لا مشاهد أكثر فرحاً وتعاسة من احتفالات استقبال الدكتاتور. “أهلا بيكم، أهلا بيكم، طلائعنا بتحييكم” تصرخ خلية، فتنافسها الثانية بصوت أعلى، وجسد مُتخشّب “كالألف” وسيدارة أكثر استقامة من شيخ جامعنا الجليل، وتنافسهما الثالثة بدموع حب حارقة تنسكب أنهاراً وهي ترنو لتقبيل كفها الشهي.
تسري القشعريرة من أخمص أصابع القدم لفروة الرأس، كتيار كهربائي في بلاد الأجانب، ثابت المسير، غير متردد ولا منقطع، بينما تترادف الأفكار الفوضوية في رأسي رتلاً أحادياً مُنضبطاً كعرض للجيش الياباني أو دبكة فلسطينية. تشدو لها الفرقة الأولى قصائد عشق لطالما سخرت من كُتّابها ومردديها، بينما تلّحن الثانية أغان مبتذلة تبجّل أنفاسها الصباحية السريعة، ظلال الفحم تحت عينيها، ظفر سبابتها المكسور، نشاز صوتها في الغناء، وملمس سكينها غير المسنون في المعدة. قصائد ترّحب، قصائد تتغزل، قصائد تحضن، تنشغل بحّل مشاكها، تطهو نكهاتها المفضّلة، تخطط لإسعادها، تنخذل، تذوب، تطير، تنكسر. وقصائد تضبط ألحان القلب لئلا تعلو على أحاديثها المُكررة عن تفاصيل حياتها اليومية التافهة التي تصيغ منها أحاديثا لا تنتهي.
ومن خلف الضجيج، تستحضر الذاكرة المُغبرّة كاظم الساهر، فيطل من نافذة الماضي مُغنياً “يا هلا بهالطول، يا مية هلا”.
ألا إن هذا هو السحر المبين، فهل تلبّسني المَس الشيطاني الذي أخبرتني عنه جدتي؟ وكيف أصابني وقدّ تحصّنت بقوة خرجت منها بحروب وتهجير وخوف وقمع لثلاثة أعمار ونيّف؟
وإذ بها تنقّض عليّ كما تنقضّ كفّ أمي بمهارة لاصطياد الناموسة الطائرة، تغلقها عليها بإحكام وترّجها بقوّة 38 هزّة أرضية، ثم تقذفها كصاروخ طائرة حربية روسية، ترتطم بالأرض، لتتوالى الانفجارات.
هذيان الحُمّى طال واستطال، أعادت لي كوابيس عتيقة، ووجع انكماش المعدّة الذي بدأ مع مجزرة مدرسة مُجاورة في حلب الشرقية، فكيف تستطيع حُمّاي الجميلة أن تنافس المجزرة في الوجع؟
ثلاث هجمات انقضّت فيها معدتي على نفسها تنهشها هذا العام، وتتآكل لتعصر الوجع من عضلاتها، بينما أشاهد بدهشة الأطفال ما يجري. في أي كهف أخفيت كل هذا عن نفسي؟ ولماذا سقيت دمي للعنكبوت الذي نسج شباكه على باب الغار؟
غبار فاسد مُحمّل بالغضب عصف هذا العام بعد أن أزالت الحُمّى العنكبوت وشباكه، ليطلق العنان لتسونامي من الأسئلة، تجاهلتها جميعاً لأطيل حضّن الحُمّى وأمدد الهذيان دقيقة إضافية، ثانية..
رفعت حُمّاي المُتلاعبة نبضي ليطرق أسقفاً لم أعرف بوجودها، في لحظات استسلامي بين يديها، ولئلا يُزعجها قصف القلب للدم في الشرايين، حبست أنفاسي لأوقات قياسية، فكّرت بالضفادع في غابات الأمازون ودرس أقوال القائد الخالد في كتاب القومية، لكن محاولاتي لم تتفع، استمر طرق الطبول داخلي وأيقظها.
شهيق، زفير، شهيق، زفير، رحيل، رحيل.
بماذا كنت أفكر قبل أن تتملّكني الحُمى؟ ماذا كان يشغل الرأس قبلها؟ ما هذا الانحطاط الذي يصارعني؟ من وضعني بالحلبة معه؟ كيف أقف؟ ما وظيفة هاتين القدمين؟
بحثت على غوغل عن وصفات المُقاومة بعد أن كنت أوزّعها للصديقات، وكصحفية مُنظّمة تضع مهاماً دائماً وتنفذّها، طبّقتها كلها، كلها دون استثناء.
رسمت لأول مرة في حياتي، ونصبت للغضب والخذلان معرضاً في بيتي، ركضت، ولأول مرة في حياتي أركض دون وجهة، لا لملاحقة سرفيس المزة جبل كراجات، وإنما هرباً من نفسي وإليها، وتركض معي حُمّاي الرشيقة في الشوارع والحدائق، تسرق الأنفاس مني، أهزّ رأسي بعنف لأخرجها، أمسك بها كالناموسة أحاول رميها كما تفعل أمي، فترتدّ للجوف الفاصل بين رأس المعدة والقلب، هناك عرشها، ومنه تدير قواعدها كخبير عسكري جبان لا يأبه بالمعركة ولا تعنيه الحرب.
عدت للقراءة، قبلت عروض عمل يحتاج إنجازها فريقاً كاملاً، وبعد الفشل في إفشال عضلة تحتّلها الحُمّى وتتحكم بها، عملت على إفشال كل العضلات الأخرى واحدة تلو الأخرى. الأكتاف، الذراعين، المعدة، الأرجل، بالحديد ورفع الاثقال، وفيما هي تشتّد وتقوى مازالت تلك العضلة الضعيفة تضرب عند سيرتها حتى بعد شهور من بدأ التعافي، لمجرد أنني أكتب نعوتها هنا.
نعوتها: في الربع الأخير من العام العاصف، وتحديداً في الرابع من أيلول، الساعة الواحدة بتوقيت غرينتش، سقطت آخر المُحاولات لإقناع نفسي بكذبة أن الحُمى ليست بحُمى، كنت كما مريض السرطان الذي يعرف تماماً سيناريو النهاية، وقد رسم المشهد بدّقة من لحظة إخباره بإصابته، لتقديرات سنواته الباقية، وتلال الأدوية، الحضور في الجنازة ومنشورات التعزية على الفييس بوك.
خرجت من الغار مع صديقي العنكبوت الذي كان صادقاً وواضحاً في اعتياشه على دمي، أمشي كدُمية خشبية قُطعت خيطان مُحرّكها، ادفع بقدم أمام الأخرى بالقوة، شهيق، زفير، رحيل، رحيل.
ها أنا أستعيد نفسي المُستلبة من الحُمّى المتوحشّة التي لا تستحق كل تلك الحياة والضحكات التي منحتها. شهيق، زفير، شهيق، زفير، ما هذا اللحن؟ أعرفه؟ تتحرك شفتاي لتغني معه “مستقيل وبدمع العين أمضي، هذه الصفحة من عمري وأمضي”، هو كاظم دائماً يحضر دون استحضار، لكني لم أسمع هذه الأغنية منذ أكثر من 15 عاماً، كيف خطرت ببالي الآن، هل ألهمني الساهر تعوذية لفك السحر؟
بدأت عامي الماضي بُحمّي شلّت روحي، وها أنا أنهيه بمدونة رثائية، أطيّرها على قبرها المقفر الذي لم يزرعه أحد من بعدي، لألملم العبر وأخطّ بها على شاهدتها: “خاسرة”، وأركض وحيدة.