لشهر كامل تكفّلت براميل النظام والصواريخ الروسية بإيقاظي صباحاً٫ منبّهاتي الدقيقة في مواعيدها تبسّمرني واقفاً في تمام الساعة السابعة صباحاً يومياً٫ لا تدخل القذائف في هذه المعادلة فصوتها اعتيادي بما فيه الكفاية لئلا يقلق نومي.
أشتاق لرفاهية الكسل الصباحي في السرير٫ أشتاق لئلا أقفز منه مفزوعاً لأرتدي ما تقع عليه يدي وأركض نحو ضحايا منبهاتي الجدد.
درّبتني السنوات الخمس الماضية لأصبح خبيراً في إنقاذهم من تحت الأنقاض٫ أستطيع بسهولة أن أحدد بعد الصوت المُستجدي تحت الركام٫ حفظت أشكالهم عند الخروج واعرف ملامحهم رغم تحوّلهم لتماثيل غبارية٫ أما تلك العناقات المصدومة للأطفال العائدين للحياة من تحت أحجار ماكان بيتهم٫ فهي ما لن يُمحي من ذاكرتي..أبداً.
لا تغادر أيضاً بقع دمهم من قمصاني٫ تتساءل زوجتي دائماً لماذا أشتري الكثير من القمصان القطنية في كل رحلة أقوم بها لتركيا٫ أكذب “أضعت القديمة” لئلا أرعبها بمشهد الأطفال الجرحى متدلّين من قمصاني.
عتبة حساسيتها لإصابات الأطفال ارتطمت بالسقف بعد أن أنجبت ابنتنا زارا قبل ستة أشهر. آه..زارا٫ هي أكثر ما اشتاق إليه خلف هذه الطرق المقطوعة.
أسميناها “نجمة صبح” لليل لا يغادرنا٫ الطيران الملعون سرق مني حتى لحظات السعادة الصباحية بتأمل صورتها مع أمها المعلقّة أمام السرير تماماً على مستوا النظر.
أعود حوالي الساعة ٩ صباحاً لأغسل عني غبار الجريمة الجديدة وأستوعب ما جرى. ما الذي جرى فعلاً؟ هل هو فعلاً أنا من سحب تلك الجثث؟ ومن جمع الأشلاء المحترقة؟ كيف فعلت ذلك؟ أصوات صرخات الأحبة تنادي أسماء غارقة بالحجارة عالية جداً غادرني صوتي وأنا أصرخ على المتجمعين أن يبتعدوا لأن القاتلة الأنيقة مازالت ترصدنا من السماء.
في إحدى الضربات الأخيرة٫ سرقت حواسي امرأة تحمل رجل طفلة صغيرة تركض بها صارخة “هي رجل صغيرتي رشا٫ لا يمكن أن أخطئها٫ هي لرشا!” لا أعرف كيف أطفئ هذا المشهد من ذاكرتي وأعود..
أعود لغرفة جلوسي المُشرّعة للريح حيث لم أعد أملك الوقت الكافي لإصلاح شبابيكها المكسورة٫ أتأمل فنجان قهوتي الفارغ إلا من الخيال٫ أحبها سوداء غامقة بلا سُكّر٫ لكن لا قهوة هنا ولا غاز٫ لدّي فقط سكر.
ما لا ينفذ في الحصار هو التعب والخوف واليأس٫ أحاربهم جميعاً بمكالمة فيديو مع زارا٫ ٩٠ كم يفصلني عنها أستطيع أن أصلها ركضاً بساعات إذا شرّعت أقدامي للشوق. لكننا الآن لا نملك إلا هذه الشاشة الصغيرة تراني فيها مُصفّحاً٫ ربما لا تستطيع أن تميز بيني وبين “القرود الخمسة الذين يقفزون على السرير” أغنيتها الإنكليزية المُفضّلة٫ تراقبني للحظات٫ تضحك لي مجاملة ثم تفقد الاهتمام بوجوي الافتراضي بحياتها..
أصبحت تتقّلب زارتي الآن٫ لم أحضر ذلك٫ غبت أيضاً عن وجبتها الأولى ولو بقي الحصار لفاتتني كل أشيائها الأولى ..ذلك قادرٌ فعلاً على قتلي٫ أنا الذي انتصر على الموت١٨٠٠ مرة ومرّة منذ المظاهرة الطيّارة الأولى من آذار ٢٠١١.
الشهر الماضي فقط أصابني صاروخ روسي ضرب على بعد أمتار من سيارتي في الكلّاسة٫ لم أشعر بشيئ٫ ابيّضت الدنيا في عيوني وغابت الأصوات وكأنها تصدر من بئر عميق٫ بعد دقائق بدأت أرى مجدداً٫ جاء أحدهم نحوي٫ كسر باب السيارة وأخرجني “مافيه شي روحوا عند غيره” أخبر الغرباء الآخرين الراكضدين نحوي.
لربما كنت أخرجت نفسي وساعدتهم بالآخرين لو لم يكن كتفي مكسوراً. مضت خمس سنوات لكنها جديدة كحزني هذا الصباح.
في الطرف الآخر من هذه المدينة٫ حيث ولدت وعشت٫ اعتقلت وسط أحد شوارعي وضُربت كسجّادة أمي في تعزيلة الصيف والشتاء. أطلقوا النار على رجلي ومثّلوا إعدامي ووجهي للحائط٫ سقطتُ ظنّاً مني أنني مت فعلاً٫ إلا أن حذاء قاسياً سقط على رأسي كحجر٫ بدأ يهرسني مع الأرض ذاكراً كل النساء في عائلتي “أنا الخائن الذي أريد إسقاط النظام بمظاهرة!” صوت تسرّب لأذني تحت الحذاء “علاء! لا تقتله٫ عمنتسلّى”٫ عرفت عنئد اسم مُعذّبي وصوت المجرم الذي أنقذ حياتي.
حان الوقت الآن للتفقد اليومي للأصدقاء “مين لسه عايش يا شباب؟” أكتب لهم على مجموعة افتراضية تجمعنا لأعرف من منّا انتصر على الموت ليوم آخر.
بعد أن أتأكد أن الجميع على قيد الحياة بين طرق حلب المرصودة٫ أخرج من منزلي على دراجتي الناريّة الجديدة التي اشتريتها بعد الحصار٫ لأن ثمن البنزين (إن وُجد) أصبح سمائياً أيضاً.
رغم حجمها الصغير إلا أنني حوّلتها لتكسي مجاني أنقل فيها من تقّطعت فيهم السبل بالمدينة٫ وذلك نتيجة توقفت كل أشكال المواصلات العامّة بسبب انقطاع طريق الكاستيلو وتوقف سيارات المحروقات عن القدوم نحونا.
منذ ذاك الوقت قمت أنا وبعض المتطوعين بعدة مشاريع لمساعدتهم على النجاة ليوم آخر٫ استّعنا بالأصدقاء في غوطة دمشق وحمص من خبراء الحصار لأخذ الأفكار وكان على رأسها٫ الزراعة المنزلية وهذا ما فعلناه.
اشترينا فلّينات وأحواض وزرعناها ببذور الطماطم والباذنجان والكوسا التي حصلنا عليها من المجلس المحلي٫ ثم وزّعناها على العائلات٫ مما شجّع منظمات مدنية مازالت تعمل في المدينة على اتبّاغ خطواتنا وفعل المثل.
بعد أسبوع واحد من الحصار٫ فجأة نفذت رفوف المحال والبسطات من كل أنواع الخضار والفواكه٫ المحروقات والمُعلّبات والسكر أيضاً أصبحت غالية جداً إن وُجدت. كيلو البطاطا مثلا ارتفع من ١٢٥ ليرة إلى ٦٠٠ ليرة في أيام عدّة فقط!
في الحصار أيضاً٫ أصبحتُ آكل وجبةً واحدة يومياً٫ أؤجلها حتى منتصف الليل لأغالب فيها النوم بالشبع٫ غالباً ما تكون نوعاً من البقوليات المسلوقة من المؤونة المنزلية أو المعكرونة القاهرة للحصار.
أما الحصار٫فقد كان إعلان بدء معركة كسره كافياً لقهر يأسنا جميعاً٫ كل من أعرفهم في هذا الجزء من المدينة أصبح فجأة بالشارع يعرض خدماته وأي مساعدة يستطيع أن يقدّمها٫ عندها بدأ البعض بفكرة إحراق الدواليب لصبغ السماء بالغيوم السوداء وفرض حظر طيران محلّي الصنع٫ على أسطحة المنازل وفي الشوارع والساحات٫ كان الأطفال أبطال المشهد.
كنت عندئذ مع سمر٫” مديرة في منظمة فسحة أمل”٫ نوّزع أحواض بذور الخضار٫ وعندما عدنا للحارة جاءت الجموع نحوي تسأل إن كان لدّي دواليب فأُُخِذت بالحماس وأعطيتهم دواليب سيارتي القديمة وبعد أن اشعلوهما تذكرت أنني دفعت ثمنهما ٣٠٠ دولار! وبهذا أكون خلقت أغلى غيمة سوداء في حلب!
لأسبوع كامل لم تنم مدينتي على وقع تقدم الثوار على جبهات الريف الجنوبية٫ مظاهرات وحرائق وحراك أعادنا لروح الثورة الأولى.
وجاءت تلك اللحظة وأُعلن فك الحصار! تقول سمر “كانت أسعد من لحظة حضني لابنتي الأولى بعد ولادتها! ولا لحظة نجاح ولا تخرج ولا أي شعور يوازيها”. أما بالنسبة لي٫ فكانت إعادة إنتاج بإخراج جديد للحظة عشتها قبل أربع سنوات٫ عندما فتح السجّان باب زنزانتي النتنة وقال: “انت حر”.
بلسان محمود رشواني٫ المادة منشورة في الغارديان