تبلكمت عندما سألني الصحفي البريطاني في آخر المقابلة “كم خسرت من أصدقاء في الحرب”٫ وبدأت قشعريرة ساخنة تسري بجسدي تماماً كتلك التي تعتريك عندما تختار المُعلمّة اسمك من دفتر العلامات لتسميع درس لم تحفظه٫ مع ذات الانزعاج من أن اسمي وسط الأحرف الأبجدية ويجب ألا أكون الأولى!
حاولت أن أنوّع له تشكيلة ممن فقدت من الأصدقاء المقرّبين إلى المعارف الذين ربطتني بهم صحبة حرب لا تُقاس بالأيام وإنما بعدد المرات التي ننجو فيها من الموت ونضحك للمعتقلين والمخطوفين.
اخترت له -مستحضرة كل ما بقي في ذاكرتي من ذكاء- شهيداً تحت التعذيب٫ شهيداً مقاتلاً٫ وآخر ناشطاً إعلامياً٫ مخطوفةً من قبل كتائب تُعتبر ثورية وآخر عند داعش وثالث أعدمته داعش.
طلب مني التوقف ففعلت وانتهت المقابلة.
أمس قصفني على صفحتي الرئيسية على الفييس بوك رابط نُشر قبل دقائق على صفحة حمودي بيطار الذي استشهد قبل حياتين وربما أكثر..(الرياضيات أيضاً من المتضررين الأكبر في دماغي)..
دخلت صفحته تقودني دهشتي والبلاهة٫ “تعرّف على حالة قلبك اليوم” يقول التطبيق الفلكي الذي مازال ينشر روابط على صفحة محمد لليوم.
يمكن أن أقتنع أن القلوب النقيّة التي لم تعرف الكره لا تموت٫ لكن كيف لها أن تنشر تعليقات علي صفحة من سرق قلبه صاروخ كامل على أعتاب مدينة لم يحلم إلا بالرجوع إليها٫ وتوّج تحريرها كمنتهى أحلامه ليُقبر على بُعد أمتار منها..للأبد..
صورة مشتركة له مع عبودي تقودني لصفحة الأخير٫ مازال الأصدقاء يكتبون له أماني بالرحمة والهناء٫ بعضهم يحسده والآخرون يصارحونه بغصّتهم لوجوده بعد عودتهم إلى بيوتهم دونه..
تبدأ التعليقات على صور الشهداء غالباً ب “لابقلك والله يحميك” والكثير من الهاهاهاهاها وخخخخخخ لتنتهي ب “الله يرحمك يا بطل”..”ليتغمدك الله برحمته”..”اشتقتلك” “لن ننساك”..
سحبتني دوائر الموت إليها٫ أردت أن أثبت لنفسي أنني لم أنسى٫ فاكتشفت بفجيعة أني نسيت فعلاً!
نسيت أن أخبر الصحفي عن لؤي وزوجته وبنته ريم وابنه عبودي والذين استضافوني في منزلهم قبل أن تمحيهم جميعاً سيارة مخففّة مخلفّة ابناً وحيداً٫ بكرهم أحمد الذي شاءت الصدفة أن يكون في بلد آخر.
تذكّرت في سجون داعش صديقي النبيل عبيدة لكني نسيت أسامة وحسام٫ الشابان الأجمل في الرّقة٫ كانا آخر من تحرّكت معهم بعد سيطرت داعش على المدينة٫ نشيطان لامعان تفتخر بترشيحهما لأي نشاط ولأي تدريب ولأي عمل٫ فهما لا يتقنان إلا الإجادة والتميّز..يا لَ خسارات هذي البلد..
وباسل٫ المحظوظ بينهم بالذكرى والصلوات والصور والحكايات٫ لا أستطيع أن أستوعب أحياناً كيف تصبر هذه الخرابة التي نسمّيها وطن على فقدان هذه الأرواح الفاعلة المُحبة لها حدّ الموت٫ ربما تفعل كما أم محمود٫ تختار لهم الأفضل وهو بتعريفها: أن يموتوا معاً. ولذلك لا ترسل أم محمود أولادها الستة إلى المدرسة “نموت كلنا سوية فلا يبقى منّا منكوباً وحيداً” تشرح لي خطّتها وكأنها تحدّثني عن طبخة البرغل والرز التي تعدّها لهم ثلاث مرّات في الأسبوع.
هم أأمن في حضنها من سطحها٫ ولتذهب سطوحنا نحن الباقون إلى قاع أي من البحار الجزّارة…لا يهم..
وحدهّن الأمهات لا يتزحزحن عن الموقف الأخير..مازلن منتظرات هناك لمن لن يأتي..
لثلاث سنوات تحدّثني أم معن عن بيتها الذي احتلّه الشبيحة في ادلب بشغف٫ وهي التي تعيش منذ هروبها بشقّة بريّة صغيرة٫ تحرّر المنزل من الشبيحة منذ أكثر من ثلاثة أشهر ولم تذهب…
“كيف بدي فوت ومعن وهاشم مو معي؟!”..لا أعرف والله يا خالة..كيف تخرج من قلبي نصيحة أن تديري ظهرك لقبرَي الشابّين الناصعي حياة وتعودي إلى البداية..حيث كانا وكنتم..قبل كارثة الحلم بالحرية…
ثلاث سنوات من الانتظار لهذه اللحظة وعندما تأتي٫ لا تجد معك شركاء الحلم والنضال فقد تساقطوا في سبيلها تباعاً٫ المنتصر الوحيد مسكين يا خالتي..كلنا مساكين والله يا خالتي…
كذلك لم تعد أختها أم حسّان إلا لدقائق قليلة ثم حملها قلبها الملتاع على ابنها الأصغر بعيداً حيث النزوح الأخير دون ذكريات٫ وحدها أختهم الثالثة عادت لبيتها كي يجد زوجها من ينتظره في المنزل عندما يطرق الباب عائداً من المعتقل٫ بعد سنتين من الاختفاء الكامل.
لا تُفسح لي سما مجالاً لأنسى محمد رغم أن عمر اعتقاله تجاوز العامين٫ مازالت تضرب المواعيد بيننا على أساس خروجه وتضع المُخططّات! وأحياناً تروي لي مناماتها وخلاصة عمليات البحث والتقصّي التي لم تمل منها طول الأشهر ال٢٥ الماضية…
“مازال حيّاً” تخبرني أحياناً بعد سرد طويل للمصادر التي أودت لهذه النتيجة٫ وكأن بقاءه على قيد التعذيب هو الفرح بعينه٫ غاضبة هي من أمه لأنها استسلمت وأصبحت تعتبره شهيداً لتقتل الانتظار بيقينها..
كيف أنسى محمد وهو حيّ بهذا الزخم في قلبها!
تتراكم الانتكاسات على رأسي كالأنقاض٫ عالقة أنا في الممرّ حيث أختبئ دائماً من القصف٫ لا تقتلني الحجارة الثقيلة القريبة حدّ هرسي ولا تحميني من الضربة الأخرى..
يبدو لي اليوم غياث مطر أسطورة قرأت عنها يوماً بالتاريخ٫ كأننا لم نكن٫ أنسى حتى كيف أخبرنا عن خطّته بوضع البطاقات على زجاجات الماء التي سيقدّمها للجيش..ونسيت ما كتب عليهم حتّى..
لكنّي لا أنسى رزان٫ وحدها تلك الجميلة لا تتركني بحالي يوماً واحداً٫ تتقمصّني ولا أرغب بالهروب منها ولا مفترق طرق عندي أرخي عنده عجزي عن مساعدتها لأكمل ركضي نحو جنوننا الأخير..
للغائبين الحاضرين منهم والغائبين٫ أكتب لتسكّين ضميري٫ لأضحك على نفسي بوعود الصمود والليمون اليابس الذي لن ينتهي..للغائبين المُرتاحين من الخسارات الجديدة ومن لم يعيشوا تفاصيل الهزائم المتجددة..سأنسى أن أنساكم أحياناً وسأجر نفسي من يدي لأتفقدّكم واحداً واحداً بقائمة “جهات الاتصال” على موبايلي الذي لا أبدّل خوفاً من أن أضيّعكم مرّة أخرى…
للغائبين بحضورهم الثقيل…لترتاحوا منّا جميعاً في النقطة الأبعد عن أحقادنا وعُقدنا وسُخفنا …ولترقدوا بسلام وسكينة دون جعيرنا المزعج…
اعذروني على استحضاركم الأناني لهنا حيث التشبيح المترامي الأطراف من كل الأطراف…أنا آسفة..سامحوني..