قنفذ مسموم يتراقص في رأس معدتي منذ أسبوع وبضعة أيام، أعجز عن تهدئته بكل الطرق التي تعلّمتها منذ 15 عاماً: من تجاهل ومواجهة ورفع الأثقال والركض والرقص والغرق في العمل و … لكنه عنيد ومُثابر كحقد يتدحرج من جيل لآخر..
أجبر نفسي على ابتلاع الطعام لأخفف من لسعاته، ويجرّني الأصدقاء للخروج، لكنّا جميعاً عالقون هناك كفأر في جحر أسد، ينفر الدم من شاشة الهاتف ومن عيوننا ونحن نتابع غرق البلد في مستنقع حرب طائفية لن ينجو منها أحد..
تتساقط أسماء شركاء الحلم الأول بالحرية على رأسي كصواعق، ماذا نقول لمن رحلوا على الطريق؟ في المظاهرات والسجون والاغتيالات والقصف العشوائي، والقتال ضد الجيش العربي السوري الذي كان يهاجمنا…حمودي، معن، باسل، عبودي، رائد، حمود، خالد، أحمد، رامي، فاتن..
في بيت فاتن في دوما، التقيت زينة بعد أول مظاهرة أشارك بها في ريف دمشق صيف 2011، في المنزل المُرتّب وعلى ضوء الشمعة، أخبرتني زينة أنها تريد أن تصبح صحفية بينما كنا نلتقط أنفاسنا إثر الركض هرباً من رصاص الأمن الذي هاجم المظاهرة. صمدت زينة في دمشق دافعة هوامش الحريّة بجسدها النحيل، لتجد أثرها في التراث والفنون السورية الآخذة في الانقراض. زينة تتلقى صفعة من شبيّح بنسخة جديدة لا يعرف عمّا يدافع ولا من..يريد الشبيح عصا لئلا يلمسها، من حقّه أن يخاف من عدوى جمال روحها وإخلاصها لبلاد تبرع في فنون القهر..
القطيعة..
بعد رحيلي عن سوريا جسدياً ومعنوياً عام 2016، اعتقدت أنني سحبت منها أخيراً حبالها الملفوفة حول معدتي ورقبتي، في ذلك العام عصف بي “حقد المهزومين” إذ حوّلت الهزائم والخذلان طاقة الرفاق والرفيقات، من إسقاط النظام وانتهاكاته لإسقاط بعضهم/ن البعض.
في ذلك العام اعتقدت أنني وصلت لذروة الخذلان من الرفاق، فكيف يمكن أن يكون الخذلان أكبر من حملة تشويه سمعة واغتيال معنوي تقودها رفيقة بكيت في حضنها خوفاً من تنكسية طائرات حربية لازمت حيّنا لأيام، ونمنا جنباً إلى جنب في ممر قبو تمشّطه رشاشات الـ23، ونحن بانتظار شريكَينا على الجبهة، لا نعرف إن كانا سيعودان مُحمّلان بالقصص والغبار أم على حمّالة، وربما لن يعود منهما شيئاً أبداً..
اعتقدت ألا خذلان أكبر من شركاء الموت ينهشون لحمّك علناً، لكني الآن شهدت خذلاناً أكبر، مع مُتابعة شركاء الحلم يتحوّلون لأدوات إبادة لمن هتفوا لهم بالحرية..
قبل تسع سنوات، هربت، و مارست ما أبرع به: القطيعة..
رفضت عقود عمل مُتعلقة بسوريا، قطعت التواصل مع القلّة الباقية لي فيها، ولم تعد حاضرة إلا في كوابيسي.. فأنا لا أعرف إلا الهرب كطريقة للنجاة.
نزحت إلى مآس مُتقاربة وضحايا يشبهوننا، فتعلّقت في حب العراق وليبيا واليمن والسودان، وأعاد لي العمل مع المناضلات في سبيل الحياة توازني، لأبداً أخيراً بالمضي قدماً نحو شيء ما..لا يُفضي إلى البلد..
طوال تلك السنوات، لم أكتب عن سوريا او لها، ولم أشارك بأية فعالية تخصّها إلا نادراً أو إحراجاً، أما آخر ما كتبته بالإنكليزية فكان عن “ولاد البلد” وهم ثروتي الوحيدة التي ظفرت بها من إدلب، مدينتي التي أصبحت تريند لكل الأسباب الخاطئة من مقتل قائدين لداعش فيها، لتحوّلها لمقرّ للمهاجرين، وساحة لمجازر الأسد.
خلف التريند، صينية فطور أعدّتها خالة أم معن في شقّة البريّة التي نزحت إليها بعد أن انضّم بكرها معن للجيش الحر عام 2011، قبل أن يقُتل، وهاشم هتّيف ادلب خريّج اللغة الإنكليزية ذو الوجه الطفولي الذي قُتل مع “أحرار الشام” وكان يسخر مني بأنني ابنة “خالة أم الكاتو” لأن أمي وزّعت قوالب كاتو كانت تُجمّدها على الحارة والثوار أثناء حصار الجيش لإدلب قبل دخولها، أمي نسخة ثورية من ماري أنطوانيت!
على صينية خالة أم معن النحاسية المتربعّة على شرشف ملوّن وحوله فرشات رقيقة: سلطة السوركي والزيتون المُجرّح وآخر مُكلّس، البيض البلدي المقلي بالسمن، خبز التنوّر و سلطة الزعتر الأخضر مع الجبن البلدي.
وقربها مطربان زيتون أخضر ناصع مع شرائح الليمون مغمور بزيت غامق طازج جهّزته أختها، خالة أم حسّان لآخذه معي. خالة أم حسّان لديها أيضاً شهيد مقاتل، وقد نزحت هي الأخرى.
دفنت كل هذه الذكريات بمرارتها وطيبها بملّف فوضوي رميته على قرص تخزين خارجي، حفظ السرديّات المقموعة كان آخر معاركي في هذا البلد.
بدأت تشنجّات معدتي تتباعد، والسكينة غير المسنونة التي شعرت بها مغروزة بقلبي بدأت تصبح جزءاً من جسدي، ذاكرة لحياة لا تُصدّق.
ضربتني معدتي بموجة قصف مرّة واحدة خلال تلك السنوات من أجل شخص لا يستحق أن يكون غبارا في الذاكرة، ماذا نفعل مع الحب وعمايله؟ ورغم الأسى والغضب، كنت سعيدة بأنني أخيراً سحبت رخصّة التحّكم بمسارات أحاسيسي وأوجاعي من بلادنا الرهيبة.
السقوط في الحُب، والمجازر مُجدداً
أحيت مجازر الساحل في آذار الماضي تروما توثيقنا لمجازر بانياس والبيضا بأوجاعها، وأعاد الهجوم على السويداء هذا الشهر تفاصيل حصار درعا واقتحامها من قبل الجيش قبل 14 عاماً، مع فرق، أنني عشت تلك الأحداث مع رزان زيتونة وحسن أزهري والرفاق والرفيقات في لجان التنسيق المحلية.
الآن أتابعها وحدي مع فاجعة انقلاب رفاق كانوا “ناشطين في سبيل حقوق الإنسان” لمُحرضّين لقتل سوريين آخرين، تحت غطاء أسباب ساقها النظام الذي ناضلوا ضدّة، بحذافيرها: “خارجين عن سلطة الدولة”، “النيل من هيبة الدولة”، “عملاء”، “مأجورين”، “عصابات مُسلحّة”..
أفتح الماسنجر وأكتب لرائد الفارس، أعاتبه على من خرّج من الإعلاميين الذين أصبحوا أبواقاً للإبادة وقوى فاعلة تدفعنا نحو الحربنا الأهلية.. أغضب لأنه لا يجيب..
يراسلني أخو حسن الذي قُتل تحت التعذيب في سجون الأسد وابن قائد “لواء شهداء إدلب” باسل عيسى الذي قُصف مع عناصره على الجبهة، هما أيضاً غاضبان ومخذولان، ماذا نفعل بحمم التحريض التي تقطّع أوصالنا وتحرق آمال عودة بلدنا لنا بعد أن أصبحت أخيراً سوريا حاف دون أسد؟.
تكتب أخت شهيد الحراك السلمي حازم مطر “ليتني متّ قبل هذا وكنت منسياً منسياً” ومن كل قلبي أتمنى ما تتمناه..
لا أستطيع عدّ المرّات التي أخطأني فيها الموت، لولا محمود لمتّ خمس مرات على الأقل: قصفاً تحت جسر الحاج عندما تمسّك بمقود السيارة رغم نبذها من الأرض لتفقز نحو سيارات أخرى فقدت تحكّمها، أو بالبرميل الذي قتل طُلّاب المدرسة المجاورة. اغتيالاً بعبوة ناسفة زُرعت بسيارته وتسببت بقطع رجلي صديق له كان يقودها.
تفجيراً بالقنابل اليدوية محليّة الصنع التي كانت تحيط بي كالأزهار الاصطناعية الرخيصة التي تزّين البيوت الفقيرة في حلب الشرقية.
بتوّقف القلب يوم استفتاء الأسد عندما حلّق الحربي فوق رأسي تماما، قبل أن يركض عائداً للمنزل ليجدني كفأرة في مصيدة الممر.
والموت السادس بقذائف وادي الضيف التي ضربت مظاهرة كفرنبل، عندما سحبني رائد بوجهه الشاحب بعد أن تأكد ألا ضحايا في الضربة، وضحك بهستيريا قائلاً “كيف بدي قله للعرصا اللي عم يقصف يموّتني أول، لأنو اذا بعيش أنا وحدا تاني بموت أهل الضيعة حتقتلني لأني السبب!”
وسابع تحت التعذيب لو لم ينقذني مُسلّح شيعي من الفوعة لأنني “بنت بلد” مُخاطراً بحياته وحياة عائلته، “تقطعين الحاجز مع زوجتي وابنتي واللي بصير عليكي بصير عليهم” قال لي في تلك الليلة المُفزعة.
أنا هربت، وهو خسر ابنه بتفجير قافلة تهجير أهل الفوعة في اتفاق المُدن الأربعة، كما قُطعت رجل ابنته طالبة الصيدلية..وانا هربت..هربت بعيداً عن كل هذا وعنّي..كيف تتسّع حياة واحدة لنستوعب كل هذا؟
دورة القهر
كنت أعتقد أن النجاة هو فعل مقاومة ضد الظلم، لكنني أدركت الآن أن الأصعب هو أن نبقى على قيد الضمير.
كيف لمن عاش الحصار والقهر والظلم والقصف والخوف والوصم والتنكيل والاعتقال على الهوية أن يتحوّل في يوم وليلة لنسخة عن جلاّده؟
كيف أصبحنا فجأة “نحن” و “هم”؟
في عام 2011 كتبت في القدس العربي عن الـ”نحن” والـ”هم” في مظاهرة مسائية في إدلب وقلت فيها:
إدلبتي دائماً تعطيني مكاناً مميزاً ولم تغير عادتها، فبالرغم من بحّة صوتي الذي تركته في دوما وجدت نفسي أقود هتافات المظاهرة النسائية، هتافٌ يحرق جوفي منذ بدء المظاهرات وهاهي فرصتي لأطلقه بسماء مدينتي، خرج ما تبقّى من صوتي بعد أن رعشت أصغر عضلات جهازي التنفسي ”سلمية سلمية، إسلام ومسيحية”، توقفت قليلاً وترددت قبل أن أكمل الهتاف، تلك النماذج الجاهزة عن تعصّبنا وعن مواقفنا المسبقة من الطوائف اعتقدت أنهن سيغضبن ولن يكملن الهتاف بعدي، لكنني وفي اللحظة ذاتها سمعته يخرج من الأحرار نغماً عالياً وبديعاً “ودروز وسنة وعلوية”..فأكملت بعدههم “إي كلنا بدنا الحرية”، ابتسمت وقد راودتني رغبةٌ بركل نفسي لسوء ظني بأهلي، تباً لكل من تسوّل له نفسه أن يظن بكم السوء!.
وبدلاً من تعكير تفكيري باحتمال هجوم الشبيحة والأمن علينا كنت بتلك اللحظات أفكر بالشهيد الحمصي الجميل، هادي الجندي، كان هذا هتافه المفضّل وبحَّ صوته وهو يصرخ به في شوارع الدبلان!
شابٌ لم أسمع به قبلاً في حياتي، بكيتُه حتى التهبت جفوني، وهاهو يخطف تفكيري من المظاهرة التي حلمت لشهور بأن أشارك فيها، عدت إلى الهتاف من جديد “يا سجين لا تهتم، نحنا إلك أخت وأم، ومابصير مي الدم”.
ما الذي يجري؟ كيف وصلنا لهنا؟
حصار وإعدامات وانتهاكات وتهجير قسري وتحريض وكذب وتدليس وتضليل ومعارك، هل حقاً سقط النظام؟
أصارع لسحب أنفاس عميقة وأنا أمارس رقابة ذاتية لئلا أحرق مراكب عودتي للبلد هذه المرة، لكني أختنق.. تلتّف رائحة البارود والكراهية على رقبتي كأفعى ثخينة..
مضى أسبوع وأربعة أيام على المجزرة الأخيرة و أربعة أشهر على مجزرة أخرى..يُقتل الفقراء وتُخطف السوريات ويحاصرنا الخوف، بينما ينعم المجرمين بالحريّة..
قلبي مُعلّق بوريد مُتعب، أنظر للجرف الذي أقف على حافتّه، أنتظر دفعة يأس ترميني أو أمر مُجرم “باسل” يطلب مني أن “اطلع وزت حالي” لكنه لا يأتي..
“أيش يعني سوري”..
يعني أن يتناسب الألم طرداً مع مقدار الحب في قلبك، وكلما قشّرت طبقة من القهر تكّشفت أخرى، وكلما أزحت سطحاً من العفن هاجمك آخر. يعني أن تنام وتستقيظ على نعوات، يعني أن تعيش وتشهد كل هذا ليُقال عنك “كيوت”.
يعني أن تعيش حياة خلف أخرى وفي دمّك تسبح خنافس مُستفّزة تنغرز أشواكها في أوردتك كلما نبض القلب، والقلب اليوم في السويداء.
يُلّقبني الأصدقاء المُقرّبون بـ”البلدوزر” لأنني لا أعرف كيف استسلم، وهذا ليس مجازاً للأسف، أتمّنى أن أحظى بنعمة الإنهيار، لكنني لا أعرف كيف! كلعبة بلاستيكية، يُحرّك الواجب المفتاح في ظهري فأستمر وأستمر… فكونك سورياً يعني أن تتمنى الاستسلام..فيهجرك هو الآخر..