الرقة المحررة: شموع مضيئة في الفرات وسلامات لدير الزور باللهجة الحورانية!

‘على الرقة يا آنسة؟ بعشرة آلاف بس!، على حلب بعشرين طالع!.. اتفضلي هذا ما اسُتقبلنا به في معبر تل أبيض ‘الدولي’… لا ‘سوريا ترحب بكم هنا، لا أعلام سورية ولا حتى خيم لاجئين يطل منها أطفال حاملين علبة محارم أو قطعة من البسكوت يلحّون عليك لشرائها.
هنا ازدحام وفوضى تنذر باضطرابات لم يتأخر اشتعالها، ولم تكن كما نشرت بعض الوكالات نتيجة التدافع للدخول للأراضي التركية وإنما اشتباكات فعلية بين مجموعة من المسلحين من الطرف السوري مع السلطات التركية وقد ذهب ضحيتها شابان سوريان وموظف تركي.

عند الطرف السوري من خط الحدود غير الواضح، مسلح يقف برشاشه الثقيل في منطقة ليست حدودية فحسب وإنما مدنية بالكامل، أيضاً. ولم يكن هذا المشهد بعيداً عن حال تل أبيض، المنطقة الريفية ذات الشوارع المتعبة والغارقة بالبضائع التركية، فحركة التهريب التي كانت تجري سراً أصبحت الآن نشطة يعتاش عليها العديد من أهلها إضافة إلى تقديم خدمات نقل الصحفيين والنشطاء بالسيارات بين المناطق وبأسعار خرافية لا يقبلون فيها الدفع إلا بالدولار!
انطلقنا في رحلتنا إلى الرقة وكانت أولى المفاجآت محطات وقود تقف عندها سيارات! مشهد مدهش نسيه سكان وزوّار المناطق المحررة في الشمال السوري منذ أكثر من عام! فالمحروقات هناك تُشترى حصراً وفقط من الباعة الجوّالين المنتشرين على طول الأرصفة، أما الأدوات اللازمة لاتمام هذه العملية فهي زجاجات الكولا (ليتر ونصف) مع قمع.
لم أكد استيقظ من دهشتي لوجود الكازيات العاملة حتى شدّني جديد آخر، على طول الطريق إلى الرقة كنا نشاهد سحبا دخانية سوداء حسبتها حرقا للنفايات ليتبين أنها تكرير يدوي للنفط الذي يتم استخراجه من دير الزور خاماً ليحوّل بآلية بسيطة إلى بنزين ومازوت.

‘إسلامية.. مدنية’

في الرقة، استقبلتنا لافتات عملاقة لحركة أحرار الإسلامية مع كتابات كثيفة على أغلب الجدران التي مررنا قربها تروي أحاديث نبوية، الانطباع الأول: ذهول بالماكينة الإعلامية الذكية للحركة والتي نشرت برامجها الدعوية ودروسها الدينية وحتى شاشة ملتيميديا عملاقة على باب حديقة الرشيد وسط المدينة تعرض فيها عملياتها بمؤثرات صوتية جذّابة.
حتى أن إحدى المجموعات المدنية التي رسمت بأسماء الشهداء علم الاستقلال على جدار قرب دوّار الساعة اضطرت لكتابة ‘الرجاء عدم الكتابة على هذا الجدار لاستكمال توثيق الشهداء’ بعد أن بدأ خطاط حركة الأحرار فعلاً بكتابة حديث جديد الا إنه توقف على ما يبدو استجابة للرجاء.
من اللوحات النوعية أيضاً لوحة ‘الكونكورد’ التي يتجاوز عرضها 12 مترا وتمتد على أكثر من ثلاثة شوارع وهي سوداء كتب عليها باللون الأبيض ‘نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله’… أحد الناشطيين المدنيين وقف لدقائق مشدوها أمامها وقال ‘كانت هذه صورة لبشار، عندما أزلناها أردنا استبدالها بلافتة سوريا حرة’ لكن تكلفتها 250 ألف ليرة سورية ولم نتمكن من جمع المبلغ..
الحيطان في الرقة تروي كل الحكاية، وتخبر قصص التوتر بين التيارات الإسلامية – التي يقول الأهالي إن أغلب عناصرها غريبون عن المدينة- وبين التيارات والتجمعات المدنية والتي تشير آخر حصيلة إلى أن عددها في المدينة وحدها تجاوز 42 تجمعاً مدنيا.
تتجلى هذه الحرب الباردة بين العلمين، الأسود والأخضر، بين شارة الاصبعين لمجموعة حقنا واصبع الشهادة لمجموعة إسلامنا.. وبسبب هذا الاصبع الثاني حُرمنا من تعبئة الوقود في إحدى الكازيات بينما كنا نخرج من الرقة باتجاه الطبقة، حيث أثار شعار حقنا الموجود على السيارة التي نستخدمها غضب صاحب المحطّة الذي أخبرنا أن وقوده هو لجماعة ‘الشهادة’ لا ‘النصر’.

هنا الرقة! 

‘صباح الخير.. شعرت بضربة الميغ صباحاً؟ أين وقعت القذيفة؟ هكذا تبدأ الصباحات الكسولة في المدينة المحررة. للناظر تبدو الحياة في الرقة طبيعية، أسواق مزدحمة بالزبائن والمتسكعين.. حركة الشوارع اعتيادية تضطرب مع مرور سيارات ‘مفيمة’ دون نمرة مسرعة بين الحين والآخر، الإشارات المرورية تعمل لنفسها دون اكتراث السائقين، لكن الحركة العشوائية تخلق نسقاً أقرب ما يكون للطبيعي.. لم تسقط الدولة هنا، سلطات ما تحرك المدينة وتدير شؤونها.. السلطات المسلحة ذات التوجه الإسلامي يبدو أن لها اليد العليا في ذلك، فيما تحاول القوى المدنية أن تستند عليها لتبني قاعدتها الإدارية، استمرت بعض المؤسسات الحكومية كطوارئ الكهرباء والاتصالات بالعمل بجهود موظفيها الذين لم يقبضوا رواتب منذ شهرين، فيما تعطلّت مؤسسات أخرى بالكامل كالمحاكم والشرطة ومديرية الزراعة.
ورغم أن الحرية تظهر نفسها جلية في شوارع الرقة وحاراتها إلا إن الخوف من النظام ما زال قابعاً في صدور العديدين وخاصة من أولئك الموظفين الذين سمعت أحدهم يقول لزميله في حديث جانبي ‘ذهب فلان وقابل السيد الوزير ووعده خيراً’.. ‘السيد الوزير’!! ما زال صاحب كلمة هنا.
وهنا أيضاً مقاه ذكورية الطابع و أخرى عائلية تعلو فيها المناقشات السياسية مع دخان النرجيلة وأصوات تشجيع لفرق تلعب كرة القدم تغطي أصوات القذائف اليومية، هذا عدا عن الرصاص الذي أضحى ملازماً لمعظم الفعاليات الاجتماعية من جنازة لفرح لمشاجرة، إضافة إلى الإعدامات التي تتم في الساحة الرئيسية لعناصر من ‘الشبيحة’.
خلال الأسبوع الذي آمضيناه هناك أٌعدم عشرة أشخاص يقول الأهالي إنهم موالون للنظام كانوا يقصفون المدينة بالهاون مستخدمين راجمة كتبوا عليها اسم إحدى كتائب الجيش الحر، ويقول ناشط مدني إن وتيرة هذه الاعدامات خفّت بشكل كبير عن أول أيام التحرير ويقدر عدد الذين أعدموا في الساحة بحوالي ستين شخص.
يعترض البعض على إجراء الاعدامات في الساحة العامة أمام المارة والأطفال، إلا أن مؤيديه يرون فيه ضرورة ليعتبر الشبيحة الباقين، وعند مناقشتهم بقضايا المحاكمة والعدالة يجيبون ‘لتأتلي جمعيات حقوق الإنسان المعترضة على ذلك وتموّل تكاليف إقامة سجن ومحاكم وجهاز شرطة مع رواتب لتضمن ولاء الموظفين وبعدها سنحتكم لها’.
فهنا حتى عمّال النظافة متطوعون يقومون بأعمالهم بثيابهم المدنية وبما بقي من سيارات البلدية، كذلك يفعل أغلب الموظفين الحكوميين الذين رفضوا التحول لعاطلين عن العمل واختاروا أن يكونوا ولأول مرة في حياتهم، متطوعين في مؤسساتهم، هم أنفسهم ممن كانوا يأتون متأخرين ويهربون باكراً طفى حس مدهش بالانتماء على سطح سقمهم وسلبيتهم فأحالها إيجاباً وتأثيراً.
الرغبة بالحياة والإصرار عليها يسير واثقاً في شوارع الرقة، يمر على الأبنية التي ما تلبث أن تهدمها قذيفة لتبدأ أعمال التنظيف وإعادة البناء، في أحد محال الكمبيوترات التقيت بأحد روّاده، كان موظفاً بشركة الهرم للحوالات والتي مُحيت بقذيفة صباحية ألقتها طائرة حربية خلال جولتها الصباحية الثابتة، كان الموظف يبحث عن وصلات لوضعها في محلهم الجديد ‘وإن ضربوه سننقل إلى ثالث ولن نوقف العمل’ يقول.

ضريبة الحرية

في اليوم نفسه احتفل الأهالي بالعاصفة الرملية التي خنقت الأوكسجين في الجو إلا إنها وطّدت – ولأول مرة منذ التحرير- علاقة الرقة بسمائها، فطائرات الموت تحب السماوات الصافية، لكن صواريخ أرض أرض لا تكترث، في تلك اللية سقط أحدها على سور الرقة الأثري، كنا في الطرف الآخر من المدينة لكن الصوت كان مجلجلا – بكل ما تحمله هذه الكلمه من جزالة -، وبدأت التكهنات في أحاديث المارّة ‘راجمات صواريخ؟ لا لا بالتأكيد هو صاروخ، سمعت أصوات الضربات الثلاث التي يصدرها الانفجار عادة، لنذهب ونستطلع، طالما أنه صاروخ أرض أرض فمكان سقوطه آمن على عكس الهاون الذي غالبا ما يقع ثانيه مكان سقوط الأول….’.. لو أن أحداً أخبرني أنني سأشارك بهذا الحديث قبل عامين من الآن لكنت عَجِبت من ظرافة هذه النكتة الخيالية!
في الصباح عادت الطائرات لتلقي بالبراميل المتفجرة وكانت المرة الأولى التي نسمع فيها أصوات مضادات الطائرات رغم وجود عدد كبير من المسلحين والآليات الثقيلة في المدينة.
مساء زرنا تجمع شباب الرقة الحر والذين كانوا يعدّون مسرحية ألغيت في اللحظة الأخيرة بعد أخبار البيضا وسقوط الجسر المعلق في دير الزور، دخلنا إلى مقرهم فكان الشباب يناقشون برنامج ‘دولة الخلافة’ المنشور في الطرقات والممهور بتوقيع حزب التحرير، قال أحدهم – وهو ملتح تجنب السلام علي عندما دخلت – ‘ديننا دين يسر، فنحن إذا صلينا كان بها وإن نسينا ربنا يسامح، قال خلافة قال!’.
خلفه كان يجلس فتى ويقرأ المجلة الصادرة عن هذا التجمع ‘تصبحون على وطن’ وهي واحدة من عشرات المطبوعات الصادرة في المدينة.
في تلك الليلة قرر التجمع إلقاء شموع مضيئة في الفرات حملّوها سلاماتهم إلى دير الزور وهم يهتفون لها باللهجة الحورانية ‘حنّا معاكي للموت’، وحتى عن هذا النشاط المسائي، لم تغب صبايا الرقة المدهشات، في الرقة صبايا يمشين بثقة وسط الشارع لا قرب الجدران، ينظرن في عيون المارّة حتى لو كانوا مسلحين بلباس أفغاني أسود دون أن يجفلن أو يخجلن، ألبستهن عصرية وعديدات منهن يفردن شعورهن الغامقة والملوّنة في السوق.
وحضور صبايا الرقّة ليس عابراً، ففي كل التجمعات لهنّ وجود فعّال، كما أن لهنّ أيضاً تجمع خاص يطلقن عليه اسم ‘جنى’ وباسمه كتبن لافتة على الشارع الرئيسي قرب الساعة تقول ‘أنا لست عورة على أكتافي قامت ثورة’.

كاتبة واعلامية من سورية

المادة منشورة في القدس العربي بتاريخ 16-5-2013

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.