كريمته الحرمة تنتصر على زينة الصحفية بفارق شريط حدودي..

علبة دبابيس برؤوس ملوّنة تحتّل الموقع الأكثر استراتيجية في “الشوفونيرة” إلى جوار علبة كريم ثمنية لمقاومة التجاعيد وأخرى لحماية العيون من الهالات السوداء الناتجة عن التقدّم بالعمر.

عدّة زينتي اليوميّة هنا في مدينة حلب المحررة التي اخترت أن أعيش فيها إلى أن يسكنّني جنون آخر.
فأما الكريميات فهي لمساعدتي لأحافظ على جمالي في حال فشل البرميل بالنيل مني مرّة أخرى٫ وأخطأني الصاروخ الطائش كما ما تزال الكحلة الرعناء تخطئ طرف عيني بعد عشر سنوات من التدريب اليومي على رسمها.
فإن بقيت على قيد قطعة واحدة أعمل جاهدة لأحافظ على أناقة بشرتها٫ أما الدبابيس ذات الرؤوس الملوّنة بأزهى الألوان فهي لحجاب رأسي الذي كنت قد ربحت معركتي الأولى بمقاومته في سنّ المراهقة٫وخسرتها الآن..
ثمانية أعوام وأناي العنيدة ترفض فرضه علي وتدفع تشكيلة من الأثمان لثورتها هذه٫ من القطيعة إلى حملات الترهيب المتنوّعة المتوعدّة ب(جهنم٫ عنوسة٫ سمعة سيئة٫ فضيحة الأهل)٫ إضافة لأن غياب هذه القطعة المستطيلة عن رأسي وضعني وأخطائي تحت المجهر في مجتمعي الصغير الذي صنعت منه النميمة أسلوب حياة وقوتاً يومياً يهزمون به ملل البقاء.
لكنني اليوم غريبة٫ في قطعة من بلدي لم أزرها قط وفوضى السلاح مع طول لساني وإيماني بالحقوق والإنسانية والحرية يجعلانني هدفاً متحركاً لأي سائح يعشق جمع الرصاص أو “أنصاري” تدّب فيه الحمية الذكورية فيقرر دفن فتنة أخرى في هذه المقبرة. لا حماية هنا ولا محاكم و قضاة٫ ومن الظلم تشبيه هنا بالغابة التي تبدو بالمقارنة كمؤسسة مُهيكلة يتمتّع من فيها ب“جوب ديسكريبشن” يعرفه الجميع.
لكن الحجاب الغامق والأقمشة المنسدلة على ما أُخفي من جسدي لا يدرأ مفسدة النظرات المستنكرة والمستغفرة وتلك المشتهية بالسرقة…
ابنة الجيران في الثامنة من عمرها لمحتني أسقي الزرع على شرفتي دون الحجاب تبلّكمت كمن رأى البرميل يهوي قريباً٫ أربكتني ودخلتُ مسرعة٫ لأسمعها تخبر رفيقتها الجارة عن “هالشوفة اللي شافتها”..”ياااه لو تعرفي يا لطيف! شفت وحدة كبيرة وما حيطا على راسها على البلكون قدام أمة لا إله إلا الله كلها”! صديقتها الطيبة حاولت أن تجد لي العذر “طيب بركي كانت صغيرة”..فتجيب الكهينة الصغرى “لا كبيرة بتطلع قد أمي و أكبر”!

مُحرم..

مظاهرة في حلب تصوير أبو النور اللورد
مظاهرة في حلب
تصوير أبو النور اللورد

على من تحمل صفات أنثوية هنا أن تخوض عدة معارك بأسلحة مختلفة و في الوقت نفسه:

ضد الموت بالحياة٫ ضد النظام وبراميله وصواريخه بالصُدفة٫ ضد المُستبدّين الجدد بالوقوف ضد انتهاكاتهم وبعد ذلك كله معركة تقودها وحيدة ضد ذكورية المجتمع المُنغلق الذي اختار الجهل دينا وبايعه.
وللصبايا المهاجرات للحرية النصيب الأكبر من المعركة الأخيرة٫ في تلك المعركة يتدخل المترصّد بأدق تفاصيلّهن من طول الكنزة لقماش البنطال (مثلاً الجينز يشير إلى أنها غريبة أو ناشطة)٫ للون العباءة٫ كيف تتحرك ومع من٫ كيف تتحدث ولمن؟

تهمس لي ابنة الجيران الفضولية التي لا تألو فرصة لزيارة “الخالة الغريبة التي لا ترتدي الأسود وتحمل- كاميرا ببعض الأوقات”٫ سأخبرك باسم أمي لكن لا تبوحي به لأحد وذلك بعد أن تتلفت يميناً وشمالاً كجاسوس يفضي بأخطر أسراره٫ “ربيعة هو اسمها”٫ أسألها وهل اسم أمك عيب لتخفيه؟ فتسرد لي ما جرى مع أخيها البكر عندما قال اسم أمه بين جمع رجال حيث شُبح وضُرب بالخرطوم حتى تدّمى.

في العيادة النسائية المزدحمة فتاة في الخامسة عشرة من عمرها جاءت مع أمها مضرجتان بالأسود- الطاغي على غرفة الانتظار.. تسأل أمها بصوت قلق: هي متزوجة منذ شهر ونصف ولم تحمل إلى الآن! ما الخطب! لماذا؟! طالبة من الممرضة أن تعطيها شيئاً “يُحبّل”..
وأخرى في الخامسة والأربعين جاءت مع ابنة زوجها الحامل تطلب أدوية تحرّض مبايضها العجوز على المضي مجدداً في رحلة الميلاد الأولى…
اليوم أيضاً اكتشفت أن ناشطات تزوجن من ناشطين التقوا خلال الثورة وعلى جبهاتها يُجبَرْن بعد عقد القران على ملازمة المنزل أو السفر لتركيا هرباً مما جمعهما في المقام الأول! الثورة..

وحُرْمَة..

.لم أعد أنزعج ممن يناديني بالحُرْمَة رغم كل المعاني الشاقّة التي تحملها تلك الحروف الأربعة من حرام وإحكام وحميّة حتمية و وتحريم وتجريم إلى الرحمة والرقّة وشيء من الرقّ٫ من متعة ومَنْعة ومجامعة وممانعة ومتاع وملكية إلى التاء المربوطة التي لا تخرج عن خط سيرها دون خطأ طباعي شاذ يمنعها من السير نحو الطريق المفضى دوماً إلى البداية..الولادة والخصوبة والوظيفة الآولى.
كمدربة أحتاج لجهد لأؤخذ على محمل الجدية٫ “حرمة بدها تدربنا”! وأنّى للحرمة أن تعرف أكثر من أجهل رجل! هذا ما عهدنا عليه أباءنا وأجدادنا..
كمستقلة أحتاج لقسمي نصفين وترك أحدهما خلفي وإيجاد شاب..أي شاب..ليكمّلني وأصبح حرمته
لأنني حرمة أحتاج رجلاً أخترعه عند كل حاجز٫ فمنذ تسلّح مجتمعنا الذكوري وحملت عاداته جُعباً ورصاصاً٫ أصبح لدي أخييّن اثنين٫ ثلاثة أخوال٫ ابني عمّة وزوجَين.

٫ يخاطب مُحرَمي المسلّح على الحاجز٫ يجيبه من أنا ومن أين أتيت٫ هو راعي صوتي العورة٫ أما أنا فيفترض بي أن أكون غضّةً أرتبك على الحاجز وأعجز عن تركيب جملة مفيدة…هذا هو العام وأنا خاصّة كما المئات من الثائرات اللواتي تعلو أعينهنّ على الحاجب وتقاومنَ المخرز.

وفي المرات التي كنت أمرّ فيها وحيدة٫ يسألني العنصر عن مُحرمي فأجيب: “والله ماعندي٫ حوليك حدا؟”
وللمعة تلك العيون الطيبّة التي تغدقني بعطفها على المعبر لأنني “حرمة لحالي” ..”مسكينة وياحرام” فلا محرم كفو يرافقني..لها أثر النقاب على بصيرتي..
هنا أنا أشبهني في القلب تلفّه طبقات من المسكنة والمسايرة التي لم تكن من خصالي أبداً٫ أترك روحي المعلقة ببرميل وأزور الأمان المجاور الملفوف بعلم أحمر…
أشبه نفسي بالشكل كثيراً هناك بالفساتين المُختارة بعناية والستايل٫ لكن حفرةً عميقةً في جوفي تشدّني نحو الحرمة هنا…وحتى الآن يبدو أنها تكسب الجولة تلو الأخرى…

في الشارع المزدحم بالركام وبسطات الخضار والفواكه يقول الرجل لرفيقه على الدراجة النارية “شيل من راسك يا زلمي حكي نسوان”..وآخر يمر أمام راعية ماعز تطعمهم مما تيسر لها من الزبالة وهو يخاطب رجلاً آخر “بتحط عقلك بعقل نسوان يا زلمي” مستنكراً!
خايف متل النسوان؟” ابك كالنساء ملكا لم تحفظه كالرجال كما قالت “عائشة لابنها الغالب بالله آخر ملوك” الأندلس..
كل الضعف ينسب لي أنا الأنثى ويكنّى باسمي وفي حلب المحررة جميلات يُضمدّن الموت بحّبٍ أبيضَ  مطويّ  بأناقة  ويوثّقن ويعملن ويغنّين للحياة بينما يسألني مسلح على الحاجز البعيد مرّات ومرّات “هل الطريق إلى المدينة آمن؟ سمعت أنه مرصود؟ برأيك هل يمكنني الوصول إليها”…
للجميلات..لأجهلّن فقط..احترفت لعبة الغميّضة مع اليأس وتمرّست في غبار حياة لا تشبهني هنا وخسرت معاركي بشكل ممنهج مع الحرمة.

 

المادة لمجلة “سيدة سوريا”

1-9-2014

https://www.facebook.com/saiedetsouria

 

قد يعجبك ايضا
2 تعليقات
  1. نسمة يقول

    جميلة تلك االكلمات…اختصرتي مانود البوح به
    دمتي بخير يا ام العيون الخضرا

  2. Hadia يقول

    رائعة يا زينة 🙂

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.