لقطات سردية من أراضينا “المُحررة”

انقباضات تعصر قلبي كبرتقالة يابسة تتمسّك بإصرار بالحياة رغم اتحاد غصنها مع تلك الأرض القاسية المجبولة بالموت…ليس مهم.. لا وقت لدي للتعامل معها الآن، عيوني معلقة على الطرف الآخر من الحدود وخطاي مسرعة للقاء جميل آخر أأتمنة على روحي يلقاني بابتسامة حامداً الله على سلامتي وما إن ننطلق برحلتنا الطويلة حتى يلتفت إلي ويسألني “ولك لسه ما اتشولتي لهلأ؟”…

كيف كان الطريق؟

“طويل جداً”..

لسه عفرين محاصرة؟

-إي ومافيه دبّانة بتفوت..يعني ليكي الصراحة ال بي كي كي زودوها كتير وصاروا شبيحة نظامي

والمدنيين اللي جوا؟ أنا مريت وشفت الألوف المؤلفة منهم ومن النازحين!

-متل العادة المدنيين دائماً بيدفعوا تمن التشبيح..الله يكون بعونهم.

اقترب الحاجز والنشطاء يعرفون من يقف على كل حاجز ويطوّعون حتى سلامهم ليتلاءم مع عناصره، فعند حاجز “داعش” بدارة عزة مثلاً يكون: “السلام عليكم شيخنا” ويتحول عندما نمر على أحد حواجز الجيش الحر “يعطيكم العافية يا شباب”.

عندما كنت في المناطق المحررة العام الماضي كنّا عند المرور على الحاجز نخبرهم بثقة “إعلاميي إدلب خاي” فيحيينا “الله يحميكم” ويضرب بيده بود على السيارة موعزاً لنا بالسير حتى وإن كنا بمحافظة ثانية!…اليوم نتجّنب إخبارهم بأننا إعلاميين لأن ذلك سيفتح أبواباً لمشاكل ربما تنتهي بالتحقيق في أحسن الحالات.

لم يتغيّر دور النشطاء الإعلاميين منذ بداية الثورة للآن مازالوا يوثّقون الظلم والانتهاك وتلتقط عدساتهم حياة الناس وهموهم إلا أن النظام لم يعد وحده الظالم والمُنتهك! تعدّدوا وقويت شوكتهم ومع فقدان السلطة القضائية الفعّالة والعقاب “صار حق البني آدم رصاصة وبعض المسلحين بوفروا حق الرصاصة وبيدبحوه” هذا ما ستسمعه من نشطاء ثاروا على النظام بكل مالديهم من شباب وروح.

هويتي على مرمى يدي فرغم أن المسلحين لا يطلبون عادة هوّيات الإيناث إلا أنهم في أغلب الأحيان يطلبونها مني لشكّهم أنني صحفية (الصحفية والسورية خطّان متوازيان عندهم لا يلتقيان إلا إذا شاء الحال كما في حالتي)، حتى أن بعضهم لا يثق بالهوية فيطلب جوار السفر ليطابقني بين الوثيقتين ويتأكد أنني سورية لا “صحفية”!

أول من تأخدني الطرقات المُحمّلة بالمفاجآت إليهم هم الراحلون عنها، لا تحمل شواهد الأرض التي تحضنهم أية علامات مميّزة أو أسماء إما من العجلة لكثرة القبور وقلّة الصنّاع أو لأنها “فتنة” لا أساس لها بالإسلام.

أفرّغ عصير وجعي على تلّة ترابية تحدّها صخرتان غير متناسقتين..يالله كم أكره سجن أجساد أصدقائي بذاك القبو الذي لا يفتح أبوابه إلا لروّاد السماء..الراحلين عن الوجع وزارعيه الأوفياء في كل القلوب التي مرّوا بها…

قوم يا عبودي قوم..بس شوي…لسه ما شفت شي بهالحياة يا خالتو..لسه ماعرفت ليش انتحرت حبيبتك الأولى ولا اعترفت للصبية اللي حاطط عينك عليها بإنك معجب فيها وحتطلبها من أهلها…لما بطلت تدعي على حالك بالشهادة وقررت تعيش أخدتك مننا يا قلبي يا خالتو…

“طولي بالك يا خالتي .الله شايف ومابضيّع تعب حدا”..أخاطب أم معن الساهية والتي تغّير جلستها كل قليل فهي لم تعتد جلوس الأرض على تلك الفرشات الرفيعة المحشوّة بالتراب..يوم حملة “كلنا حمص” التي قامت بها مدينة إدلب لمساندة أهل المدينة في أول مراحل حصارها عام ٢٠١١ مرّت الخالة أم معن على إحدى تجمعّات التبرع وهي ترتدي خماراً يخفي وجهها ورمت في السلّة مابيدها من أساور ذهبية ثم غادرت دون أن يعرفها أحد.

كما في كل مرة أزورها لا تنسى أم معن أن تحكي لي كيف استشهد بكرها وكما كل مرة أيضاً تغالبها الدموع..رغم أنني قابلت معنها ثلاث مرات فقط إلا أنها كانت كافية لتعتبرني من “ريحته” وتضمني بعنف إليها كلما رأتني وتبكيه.

العالم الآخر

هنا للوقت أدوات قياس مختلفة..

-متى ملأت بنزين للسيارة؟

-بعد ضربة الصاروخ التالت بيوم تشييع أبو محمد

-في أي يوم اشتريت هذا القميص؟

-يوم اللي علقت الاشتباكات بين كتيبة فلان وعيلة عيلتان

-متى رجعت على سراقب؟

-بعد تحرير معسكر الشبيبة

-متى تركت الحي الذي تسكن فيه؟

-يوم اللي انخطف الناشط فلاني

تُختزل الحياة هنا بين صفرة باردة تعلن خروج الصاروخ و ضربة تبلّغ عن سقوطه، لا مجال لتغضب أصحاباً تحبهم فقد يقتصّون منك شر اقتصاص وينزلون لمسكنهم الدائم تاريكك وحيداً أمام كتلة ترابية تحكي وتعتذر دون أن تعرف ردّة فعلهم أبداً..

عادات جديدة من البوح غير المتلائم مع طبيعتي يغالبني وينتصر.. صعوبة الاعتراف لشاب من عالم مختلف أن صبيةً تحبّه كأخيها أو أنه صديقها المفضّل أسهل من الركض خلف من كان معه في آخر معركة أو ساعة حياة لسؤاله “كان بيعرف إنه غالي علي كتير وبحبه متل أخي مو؟” وبالتأكيد لن يخيّب ذاك الصديق عيوني الراجية للجواب ويأتيني ب”لا”!

يعرف الكثير من النشطاء هذا ويستغلّوه كحيلةٍ “لمسك الإيد اللي بتوجع” وينجحون بكل مرّة رغم معرفة الطرفين باللعبة!

تعتاد بشكل غريب على غياب الاتصالات والكهرباء وأصوات القذائف التي تمرّ كحديث عابر “برميل؟ لا هي راجمة..بتشرب شاي؟”.

على طرقاتنا الطويلة بالسيارة نستمع للأغاني الجهادية التي أحملها على “فلاشة” أحياناً ومرّات تعمل إذاعة موالية للنظام فنستمع لها كمن يسمع حكايات ألف معجزة ومعجرة.. في إحدى المرات بثّت الإذاعة أغنية لحنها جميل تمجّد بشار فرفعنا الصوت ونحن نسير في ريف إدلب..كان تحدّياً بالنسبة لنا تماماً كما كنا نسمع ل “ياحيف” في مدينة إدلب قبل عامين..واضررنا هنا أيضاً لرفع الشبابيك وإخفاض الصوت “مابتعرف مين بيطلعلك وشو بيطلع معو”..المزح مع السلاح غالي الثمن.. عندما غابت إذاعة النظام شرعت مع صديقي صاحب الذقن الطويلة والشوارب المحفوفة نغني “شرطة نصيرية” ثم “رجع الخي” لسميح شقير وبعدها “خيروني ابن العم” لنجوى كرم! “دي جي” مرتبك يمثل حياتنا بامتياز.

هنا تنقطع غالباً عن الأخبار وخاصة السياسية منها..فآخر النهار تلتقي من لديه انترنت أو التقى بمن لديه انترنت ليخبرك أن مجزرة حدثت هنا أو أن صديقاً اختطف أو اعتقل..تدعو له وتقلق إلى أن تأتي مصيبة أكبر!

-أبو محمد انقطعت رجله

-الحمد لله! والله ماحدا كان متوقع يطلع من تحت البناية عايش

-اتطلقت أم سعيد

-يي يا حرام! إيه بس الحمد لله يعني لسه أبو الولاد عايش لا مات تحت التعذيب ولا قعد واضطروا يقوموا فيه.

عندما تتمكن أخيراً وبعد جهد ومحاولات عديدة من الاتصال بالإنترنت تجد عشرات الرسائل من المُحبين القلقين إلى من يريد أن يعرف “شو عميصير جوا؟” وهو خائف على حياته من الاقتراب حتى من “الجوا” لأن حياته أثمن بغض النظر عن قائمة الأسباب الأخرى التي يسردها خلف هذه الستارة…

رسالة أخرى “كنت مفكر اجي بس والله بعد قصص داعش وخطف النشطاء بطلت”! على قولة أهالي كفرنبل! “إي لجهنم”!

وثالثة “صحفي بدو ينزل على تل أبيض كيف الوضع هونيك”؟ والله “إنه الربيع ولبست الأرض ثوبها الأخضر السندسي اتفضل اشراب معنا من نهر الكوثر!”

هنا لا وقت للمجاملات..وخاصة مع البعيدين عن الموت..هنا أيضاً لا تملك رفاهية تأجيل عمل الآن “لبعد شوي” فبعد شوي قد لا تأتي أبداً..

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..وبسردلكم سردة تانية لما يرجع يتعبّى صندوق الوارد..

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.