الحياة خلف نشرة الأخبار في أخطر مدينة بالعالم

على عربة خشبية عتيقة بدواليب ثلاثة٫ صفّ عشرات أطباق البيض٫ يدفعها بمشية متهادية على طول شارع الكلاّسة بمدينة حلب وهو ينادي بلحن منتظم “جكارة بالحراميّة والظَالمين٫ طبق البيض بأربعيميّة وخمسين”. وهذا السعر أرخص من نظيره في أغلب المحال التجارية -التي لم تقصف بعد- بمئتي ليرة أي ما يزيد عن دولار.

في المثَالَين تبدو تجليّات الحصار القادم الذي تعيشه مدينة حلب هذه الأيام٫ بين من طار بأسعاره حدّ الخرف مع قطع النظام لطريق حندرات ومن يأخذ من روحه ويعطي لصدّه أو على الأقل تخفيف آثاره.

هاجمنا الحصار كسرب جراد جائع٫ في يوم وليلة تسقط حندرات الواصلة مع الريف الشمالي بيد الجيش السوري٫ حندرات هي طريقنا الرئيس للمدينة والذي كان الأأمن بالمقارنة مع الكاستيلو المرصود بالصواريخ الحرارية والذي يربط حلب بريفها الغربي.

وصفة الحصار: برميل مازرت للحصار٫ وبائع المازرت مع هجوم الشتاء العنيف وصعوبة الطريق بارز كمسؤول سوري٫ بطارياتان إضافيتان وانفرتر لشحنهما خلال الساعات القليلة التي تتكرم علينا الدولة فيها بكهرباء نظامية٫ دفع مسبق لصاحب مولدّة الحارة التي نشتري منها الأمبيرات لننعم بالكهرباء ثمانية ساعات يومية خوفاً من انضمامه لجموع الهاربين من الحصار المُحتمل.

ملابس شتوية ثقيلة٫ سلاسل من البامية الميّبسة ودبس الفليفلة والبندورة “مية افرنجي” كما تُسمّى في حلب مع كيس من الملوخية وبضع كيليات من المكدوس أُضيف إليها سلّة غذائية وزعها صديق عبر منظمته فيها كل ما لا يفسده الحصار من عدس وبرغل ورز وزيت ومعكرونة إضافة لعلب من الفطر والذرّة قررنا احتفالاً بها أن نصنع منها بيتزا للعشاء ونمدّ لساننا للجيش القريب وتهديداته التي لم تكن أكثر جديّة من الآن.

“حاصر حصارك..لجهنّم عندي مكدوس وزعتر” كتب صديقي على صفحته على الفييس بوك ضمن موجه عاصفة من التعليقات وبطلها أيضاً الحصار٫ فيما قرر صديق آخر أن يشكّل كتيبة “تشويل قطط لأكلها عند الجوع أسوة بتجارب الحصار السابقة التي سمعنا عنها”٫ وللباصات الخضر حصّة الأسد في سخريتنا السوداء من الموت المتحلّق حولنا “حجزت مقعدان لي ولزوجتي ولك مربّع ع الواقف”٫ “أعتقد أن النظام سيغير من طبيعة عمل الباصات الخضر في حلب٫ سيملؤها بالمتفجرّات والمسامير كما الحاويات والبراميل ويرسلها لنا من السماء٫ هكذا أوفر”.

  • تجدد المواجهات في حندرات وسقوط عدّة شهداء

“تمت محاصرة الشباب بالجامع٫ بينهم شهداء وجرحى” يا إلهي٫ عيّروا القبضة اللاسلكية على العام لنسمع واسأل عن الخبر كلما مررت على حاجز للثوار٫ فأخبار الحصار هي محرّك مشاعر الخوف المتلبّدة الأقوى. هو الحصار إذاً يأتي متفرقاً وجمعاً يوحّدنا ويفرّق.

من المُحاصرين شبابٌ من كتيبة “أبو أيوب الأنصاري” والمعروفة بكتيبة “العمارة “لأن أغلب مقاتليها كانوا من طلاب كليّة العمارة في جامعة حلب٫ هم شركاء الحراك السلمي قبل التسلح ومن وجّه رصاصه بوجه داعش لحماية النشطاء.

كتب قائد الكتيبة أبو جوزيف بعد أن تمكنّوا أخيراً من فك الحصار عن الثوار “

 صوت الطائرة حاضر لا يفارقنا والسماء تمطر علينا كل أنواع القذائف٫اندمجت الشظايا مع التراب  وصلنا المكان المنشود بعد ساعتين من حصار أخواننا فيه٫ أنادي على القبضة: حسن أبو شمعة عمتسمعني٫ يرد بهدوء: أسمعك ما تتأخر علي٫ وصلت إليه٫ أحاول مسح الغبار  عن عيني لأحدد مكانه٫ فيغافلنا صاروخ جديد٫ أحاول مجدداً وأنجح لأراه هناك يسند ظهره للحائط في جسده أربع رصاصات وأمامه عشرات المخازن جمعها من أصدقائه الشهداء ينتظر فيها قدوم الجيش٫ قال لي: اتأخرتوا ثم استسلم لأصابته”.

“ سنتحاصر؟” “عندك أمل؟” لا أملّ السؤاليَن ولا تمّل الإجابات مني “على دمّنا”٫٫ “باقيين”٫ في الوقت نفسه يبذل أصدقاؤنا الذكور أنفسهم جهداً استثنائياً لدفعنا خارجاً فنحن -الصبايا- “عبءٌ” لأن الصامدون في حلب الآن أمام خيار الانتقال من مرحلة الدفاع عن مُحررنا إلى الحارة وربما حتى البيت  يتدّرب بعض النشطاء المدنيين على السلاح لحمله عند الضرورة وتفعل كذلك بعض الناشطات لكن سرّاً.

  • مقاتلات النظام تستهدف بالصواريخ والرشاشات الثقيلة طريق الكاستيلو وبلدة الملاح في ريف حلب الشمالي.

الدكتور ماجد بري استشهد اليوم بالكاستيلو برفقة ثلاثة آخرين كانوا معه بالسيارة٫ الدكتور ماجد يعمل مع جمعية طبيّة وتعرفه المشافي الميدانية

 وتتذكّره آلاف الإصابات التي عالجها في حلب وإدلب.

“لازم روح ودّع أختي مسافرة من غازي عينتاب التركية بس الطريق خطير وبعد ما استشهد الدكتور ماجد صرت خايفة آخرتها نروح هيك ع الطريق” تقول صديقتي وأحرص شخصياً على تخفيف عدد المرات التي أزور فيها عائلتي في تركيا للاضطرار.

على أول الطريق غرافيتي مكتوبة ببخّاخ أسود “أخي الجندي٫ تذكّر أنك أخي” وبعدها ببضعة كيلومترات على جسر المشاة كتب أحدهم بخط متعرّج “الدولة الإسلامية..باقية”.

“هنا- في الكاستيلو- أكثر مكان يُذكر فيه اسم الله” يقول صديق آخر بعد أن يعود لحلب.

يضطّرب القلب الذي يقاوم الاعتياد٫ يطير صديقنا بالسيارة ويفتح الشبابيك لحمايتنا من الشظايا المحتملة٫ يحاول آخر أن يفتح حديثاً لتشتيت الرعب ويفشل٫ تهدأ الأنفاس العالية أخيراً..”وصلنا يا شباب٫ الحمد لله على السلامة”.

عهد تسافر إلى عملها في “الريف الغربي كل يوم وتعود عابرةً الكاستيلو لبيتها في حلب “ومقطوع قلبي يسكر الطريق شي مرّة واتحاصر براة حلب” وخارج حلب يعني في كل العالم الخارج عن حلب.

أم ابراهيم ستبقى حتى آخر ثائر ولو حُرمت من رؤية عائلاتها في تركيا٫ سكاي تستعجل بإنهاء كل أمورها العالقة في الخارج لتتحاصر بحريّة٫ أما أشقر فقد ودّع عائلته المقيمة في تركيا وحضّر عدّته للحصار واعداً إيانا بطبخة يبرق لا يشوبها جوع.

  • أضرار مادية كبيرة في حي صلاح الدين إثر استهدافه ببرميل متفجر من الطيران المروحي منتصف الليلة الماضية.

أجلس على مكتبي٫ أجل لدّي مكتب في منزلي على خط الجبهة٫ أستعدّ لكتابة مادّة جديدة فيهّب الصوت خارقاً جدارن القلب٫ أتخبّط كصوص عالق بمجرور وأركض نحو الممر أجلس بانتضار صوت الإنفجار أو ربما استضافة الموت بجلالته عبر برميل٫ تلك الثواني الطوال التي لا تصبح أسهل مع تكرار طقوسها بين الإطلاق والإنفجار أولد كل مرّة.

يأتي الصوت أخيراً مدوّياً يهزّ زجاج منزلي فأهرع نحو الشرفة لأعرف من أحاديث المارّة مكان سقوطه بفعل لا إرادي٫ الكل يتحرك في الشارع ويسأل “وين وقع” يهرع شبّان نحو صاحب المولدة ويطلبون منه أن يُطفئ الضوء  الذي ينير الحارة فال”حنونة” كما تلقّب المروحية هنا مازالت في السماء.

يصرخ أحدهم وقعت قرب جامع صلاح الدين٫ يا إلهي٫ أولادي٫ بيت أولادي..هناك..

وأولادي هم أطفال جمعتني فيهم حديقة تضّم أرجوحة وزحليقة وسط عشرات القبور٬ تضّج المقبرة بلعبهم وأصوات ضحكاتهم قرب زوجات وأمهات مفجوعات تحرصن على زيارتهّن اليومية لزراعة الأخضر برّقة على أجساد الراحلين وسقايتها يومياً٫ ويفتح البعض أحاديث طويلة مع القبور غير عابئ بنا جميعاً.

كنت قد وعدت الأولاد بأن أدعوهم لبيتي على غداء من طبخي إلا أن الانشغال أجبرني على الإخلاف بعهدي٫ وكل ماكان يشغل رأسي في تلك اللحظات هو احتمال أن يأخذهم البرميل وهم عاتبون علي ولم أنفذ وعدي٫ قال لي أحمد (٧ سنوات قبلاً) إذا متنا زورينا ونلتقي بالجنّة٫ لذا لن أقلق إذا استشهدوا بعد الغداء الموعود.

  • في هذا الأسبوع أيضاً استضافت صالة “جدل” مهرجان أفلام الموبايل

فلم الافتتاح كان من دمشق٫ كنت أحضره بنهم مُحاصر للحصار٫ يا إلهي ما أبعد دمشق! سينما الفردوس! باب شرقي! لا أشترك مع دمشق البعيدة بشيئ وأنا هنا في خريطة “الوطن” التي حفظتها بصماً.

هوائي معبق بدخان القصف وإحراق الزبالة٫ مواديّ النفطيّة مكررّة يدوياً في الريف٫ معظم بضائعي تركية٫٫ مائي مستخرج من بئر محلي٫ لا شبكة محمول ولا إنترنت سوريّ٫ علاقتي بدمشق اختزلت بقاصف ومقطوف٫ مخترع برميل وفأرها٫ قاتل ومشروع قتيل.

نعيش كلنا هنا رهناً للصّدفة ومزاج البرميل٫ في سهراتنا يحضر الموت والحصار وحديث عن مسرح الدّمى المتحركة الذي ستنفذه فرقة “طريق الخبز” في المدارس٫ شجارات على مونتاج عرض مسرحية “دكاكين” التي قدّمت آخر عروضها على مسرح بني في صالة أفراح مهجورة على جبهة مشتعلة مع  النظام٫ عن الحب وصديقنا أسمر الذي يدعونا لعرسه آخر الشهر ثلاث مرّات يومياً بابتسامته الهادئة.

أسمر الذي خسر أختيه الصغيرتين قبل ستة أشهر بمجزرة عين جالوت التي راح ضحيتها عشرين طفلاً حصدهم برميل واحد٫ وتتمدد أختاه في الحديقة في قبر واحد يلعب حوله أصدقاؤهما في الحديقة ذاتها.

يلّح علي شباب مجلس ثوار صلاح الدين لأساعدهم برفد مكتبتهم التي ينشؤونها بالكتب٫ هي المكتبة الأولى بالمحرر ويحتاجون لكتب متنوّعة يريدونني أن أتولى “شحادتها” من أصدقائي حول العالم.

في هذا الأسبوع أيضاً شهدت حلب ما أطلقنا عليه “مجزره الهمبرغر” التي راح ضحيتها حوالي أربعين شخصا تسممّوا جراء أكل الهمبرغر من محل واحد.

“تمكن الهمبرغر من هزيمة البغدادي والأسد بعدد النشطاء الذين ألزمهم السرير”

المشافي استنفرت للتعامل مع المُتسممّين وبينهم عائلات كاملة من أحد عشر شخصاً وأكثر٫ وكنّا ندعو في ذلك اليوم أن تغيب عنا المجزرة لأن المرضى شغلوا كل المشافي الميدانية ولا مكان للمصابين!

“حتى أنت يا فاست فود!”

هنا أيام لا يمّل صانعوها وروّادها من مقارعة الموت يومياً بالحياة ونثرات الفرح المسروقة من هنا وهناك٫ لكل منا كتاب في رأسه يدرس فيه كل احتمالات الموت والوصايا مع تحديثاتها “إذا استشهدت إنت كمّل الفلم”٫ “إذا متت بتدفنوني بالحديقة”٫ “بتعطوا لابتوبي لفلان”٫ “دير بالك على الأرشيف”٫ رغم أننا نكره الموت كره الظلم ونردد بهستيريا كلما اقترب “مابدي موت..مابدي موت..مابدي موت”.. حساباتك جاهزة لكننا لسنا كذلك…سطر وحيد يسقط من كتاب حساباتنا اليومية والاستراتيجية..ماذا إذا بقينا أحياء! فعلاً ماذا لو؟

يال الورطة!

“لو تفتح عمل الشيطان”..”يلعن الشيطان يا زلمي”.

المادة منشورة في جريدة الحياة مع تعديلات بتاريخ ١-١١-٢٠١٤

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.